الأردن في زمن التحول...هل ستنتصر الرؤية؟

أخبار هنا العالم - البرفسور عبد الله سرور الزعبي
مركز عبر المتوسط للدراسات الاستراتيجية
في الأردن، لم يعد السؤال عن ماذا نريد أن نصبح؟ بقدر ما الذي يمنعنا من أن نصبح؟ الملك يضع خارطة طريق للتحديث، وولي العهد يفتح الأبواب أمام العلم ونقل التكنولوجيا، لكن بين الرؤية والتنفيذ تقف بيروقراطية مترهلة، وعقول لا ترى أن العالم تغيّر او انها لا تستوعب ذلك؟
الأرقام الاقتصادية صادمة، معدل البطالة يقفز بين الشباب إلى أكثر من 40%، والدين العام بلغ حوالي 117% من الناتج المحلي الإجمالي، والاستثمار الأجنبي المباشر تراجع بما يقارب 35% في اخر سنوات، بسبب التعقيدات والبيروقراطية التي تحول المستثمر من شريك محتمل إلى خصم يبحث عن ملاذ آخر. حتى التعليم، الذي أنفق عليه الأردن مبالغ طائلة خلال عقدين من الزمن، يعاني فجوة نوعية، فالمدارس والجامعات تخرّج أجيالًا لا يجدون عملًا ويفتقرون للمهارات المطلوبة. الانفاق لتخفيض الفاقد المائي لم يسفر عن شيء ملموس. مشاريع التنقيب عبر العقود مازالت مستمرة دون نتائج ملموسة (باستثناء الفوسفات والبوتاس، وربما الغاز الموعود؟)، لا بل احياناً يتم إعادة انتاج المشاريع نفسها بطريقة او بأخرى.
هذه الأرقام ليست مجرّد إحصاءات، بل مؤشّر على أن الخطط المعلنة تتبخر أمام أعين الناس بسبب بعض العقليات التنفيذية شبه الجامدة، ترى في التغيير واتباع مبادي الشفافية والمسألة خطرًا على مواقعها أكثر مما تراه ضرورة وطنية. مما يزداد شعور المجتمع بأن الوقت يُهدر في جدل لا ينتهي، فهل ينتصر الأردن لعقله وقوته، أم سيبقى أسير الماضي، بلباس الحداثة؟ ومع ذلك، فإن معضلة الأردن ليست في صياغة الاستراتيجيات، بل في قدرته على التحرر من بيروقراطية تعيق التنفيذ وتقاوم التغيير كما لو كان خطرًا يهدد البعض من أصحاب المواقع القيادية.
الفلاسفة الكبار أدركوا هذا التوازن منذ قرون، مكيافيلي كتب أن "الخوف يحافظ على السلطة"، لكن ممكن استحضار قول أرسطو "العقل هو القوة التي تجعل الخوف بلا جدوى" للرد على ميكافيلي.
الأردن اليوم يعيد صياغة معادلته، يحاول الجمع بين القوة والعقل، ملك يدعو إلى التحديث السياسي والاقتصادي، عبر رؤية واضحة يؤكد فيها أن التحديث الشامل هو مشروع الدولة للأردنيين جميعًا، وولي عهد يطلق مبادرات لإعادة الشباب إلى قلب المعادلة، وجيش محترف وأجهزة أمنية راسخة، حافظت على الامن متماسك. الا ان الملك عبد الله الثاني، لم يُخفِ استياءه من ان أنصاف الحلول تُهدر الوقت وتُفقد الناس الثقة.
على الرغم من كل ذلك، العقل الأردني مهدد بأن يُختطف من قبل بيروقراطية تتقن لغة التعطيل أكثر من الإنجاز. والنتيجة أن الأردنيين يعيشون بين وعود كبرى لا تصل إلى أرض الواقع، وبين شباب يبحث عن مستقبل غير واضح الافق.
ولي العهد الأمير الحسين، حين أعاد خدمة العلم، أكد أنها ليست عسكرة للمجتمع بل محاولة لإحياء الانضباط وروح الانتماء لدى جيل يعاني من الإحباط والبطالة. هذه ليست شعارات، إنها إشارات إلى إدراك القيادة أن البقاء في عالم لا يرحم يتطلب الجمع بين القوة والعقل.
لكن الواقع يصدم، خطط تحديث طموحة تُعلن في المؤتمرات، وتوجيهات ملكية واضحة تعلن على الملأ. لكن عند التنفيذ بعض الفاعلين يصرّون على دفن أي محاولة للتغيير، دفاعًا عن أنفسهم، لضمان تنقلهم من موقع الى اخر، مع المحافظة على امتيازاتهم، في بيروقراطية مترهلة.
هنا يصبح التحدي الحقيقي ليس فقط في وضع السياسات، بل في كسر مقاومة التغيير من الداخل التي تمسك بخطوطها بعض العقليات ومن يدعمهم، وهو التحدي الأكبر. هذه العقليات لا تواجه الشارع فقط، بل الملك وولي العهد، ومستقبل الدولة بأكملها.
هذه ليست أزمات عابرة، بل أعراض لخلل عميق في عقل الدولة التنفيذي. المشكلة لم تعد في الخطط أو الخطابات، بل في إرادة التنفيذ، وإلى الجرأة في إقصاء من يعيق التغيير، ويكرر الفشل. فالمستقبل لن ينتظر من يترك الخطط تموت في أدراج المكاتب، ومن قيادات تكرر الخطط ذاتها، فالمطلوب هو إعادة تعريف المسؤولية، من منصب يُحافظ عليه إلى عقد ثقة مع الشعب.
المستقبل ينتظر من يملك الشجاعة لدمج القوة بالعقل، وتحويل الأرقام المقلقة إلى قصة نجاح وطنية، والتخلص من الفشل واسبابه، لا تدويره.
القوة الأردنية واضحة، في موقعه الجغرافي الحساس، وقيادة ذات شرعية دينية وتاريخية، والعقل موجود، لكن التنفيذ مهدد من قبل عقول ترى في الإصلاح مغامرة. البقاء لم يعد خيارًا، بل ضرورة لكسر الجمود، وتحويل الرؤية الملكية ومبادرات ولي العهد إلى واقع ملموس.
من مبدأ المزج بين القوة والعقل، يظهر الأردن دولة قادرة على أن تكون قصة نجاح في قلب الفوضى، لكن ذلك مشروط بقرار حاسم، لإرادة التغير، وتمكين الكفاءات، ووضع حد لأولئك الذين يفضلون حماية امتيازاتهم على حساب مستقبل وطن بأكمله، ومحاسبة كل من أخفق، او اوهم ويوهم الناس بمشاريع لم نرى لها نتائج على ارض الواقع.
ففي عالم لا يكافئ المترددين، ولا يرحم من يخافون من التغيير، البقاء سيكون لمن يملك شجاعة المزج بين القوة والعقل، وتحويل الأرقام المقلقة إلى واقع جديد يُعيد ثقة الأردنيين بدولتهم.
القوة وحدها تضمن البقاء، لكنها لا تصنع المستقبل. العقل وحده يفتح الأفق، لكنه يحتاج إلى أدوات تنفيذية صلبة. الأردن يقف اليوم أمام خيار رئيسي، إما أن يمزج بين القوة والعقل ليصنع معادلته الخاصة، أو أن يبقى أسيرًا لتناقضات بيروقراطية تُفشل كل مشروع إصلاحي قبل أن يولد.
الملك يدعو بوضوح إلى "الكفاءة والشفافية"، وولي العهد يتحدث عن التغيير، لكن لإحداث التغيير فالأمر يتطلب تفكيك البنية الذهنية في بعض من هم في مواقع السلطة التي ترى في الإصلاح تهديدًا لا فرصة.
في مرآة القوة والعقل، يبدو الأردن دولة تبحث عن ذاتها بين ماضٍ يُقاوم التغيير وحاضرٍ يفرض التحديث. المستقبل لن يُبنى بالانتظار، بل بقرار شجاع، وإقصاء ومحاسبة من يعيق التغيير ويختلق الاعذار، وتكريس دور من يملك القدرة على التفكير والتنفيذ معًا.
الأردن لا يملك رفاهية الانتظار. ففي عالم لا يرحم، البقاء سيكون لمن يملك الشجاعة ليجمع بين القوة والعقل، ويحوّل الأرقام المقلقة إلى قصة نجاح لا إلى مرآة عاكسة للفشل. البقاء ليس للأقوى وحده، ولا للأذكى وحده، بل لمن يملك شجاعة الجمع بين القوة والعقل معاً.
ومع ذلك، يبقى السؤال، هل يمكن للأردن أن يبني مستقبله فقط بالقوة الأمنية؟، وهل تكفي القوة الأمنية وحدها للبقاء لذلك؟ أم أن التحدي الأكبر هو في توظيف العقل المؤسسي لتجاوز حالة الجمود؟ الأردن اليوم بحاجة إلى عقل مؤسسي وتنفيذي شجاع قادر على تحويل الخطط من أوراق في الأدراج إلى واقع ملموس؟
مفكرون دوليون يرون أن الأردن يقف اليوم في موقع حرج، البعض يشبّهه برواندا التي نجحت في تحويل جراحها إلى نموذج للنهوض، فيما آخرون يحذّرون من أن بقاء الاقتصاد رهينة المساعدات سيجعل أي مشروع تحديث هشّاً أمام الصدمات. لكن ما يميز الأردن، هو ذلك التوازن الدقيق بين الضغوط الدولية على منطقة جغرافيا النار، والحفاظ على الأمن ومنح المجتمع مساحة للتنفس.
الأردن في مرآة القوة والعقل ليس قصة تصاغ، فإذا كان القرن الماضي قد فرض على الدولة أن تُبقي قوتها في يد مؤسساتها الأمنية، فإن القرن الحالي يفرض عليها أن تضع عقلها في يد كفاءتها المخلصة التي لم تغير مبادئها بولاءت تباع وتشترى.
ربما لهذا السبب، تبدو توجيهات الملك المتكررة حول الكفاءة والمسؤولية والشفافية أكثر من مجرد خطاب سياسي، بل محاولة لإعادة كتابة العقد الاجتماعي. عندها يلتقي الأردن مع مقولات هابرماس عن "العقل التواصلي" الذي يجعل الدولة أكثر شرعية كلما جعلت مواطنيها شركاء في القرار.
مشاركة عبر:
-
القيادات النسائية الأردنية .. رموز وطنية لا تنال منها حملات التشويه الخارجية
07/10/2025 00:25
-
المعلّم ودوره في بناء الأجيال
07/10/2025 00:25
-
استراتيجة عسكرية آمنة
07/10/2025 00:25
-
حرب غزة .. الخاسر الاكبر اسرائيل وهذا هو الدليل
07/10/2025 00:25
-
سبعون عامًا بين الحلم والخذلان
06/10/2025 00:03
-
إنتِ مش مشروب طاقة
06/10/2025 00:03
-
التعليم والبطالة وتأثيرها على الشباب في المشرق العربي
06/10/2025 00:03
-
هل سيخرج الدخان الأبيض من سيناء
06/10/2025 00:03
-
من الوعي إلى النهضة... فكر الحزب الذي يصنع الأثر
06/10/2025 00:03
-
الأردن في زمن التحول...هل ستنتصر الرؤية؟
06/10/2025 00:02