الرجاء الانتظار...

Main Logo
اخبار هنا العالم

بدونك أشعر أني أعمى حقا.. كيف تناولت سرديات النثر العربي المرض ودلالاته


الجمعة   23:49   22/08/2025
Article Image

اخبار هنا العالم - في رحاب الأدب، تتراقص الرؤى وتتبدل المفاهيم، وتتبلور المعاني في فسيفساء من الألفاظ التي تتراوح بين الوضوح الصريح والإيحاء الغامض. فكم من مرة صار الجمال في ثنايا هذه النصوص وجهًا من وجوه القبح، وكم تجلى الألم في لحظات أخرى لونًا من ألوان البهاء الساحر. الأدب، في جوهره، لا يكتفي بتصوير المعاناة كعارض يدهم النفس ويقيدها، بل يتجاوز ذلك ليجعل منها فاعلاً حقيقيًا يحرض على الإبداع ويوقظ ينابيع الإلهام في الروح. لذا، يُنظر إلى المرض في الأدب كقوة دافعة وليست مجرد نتيجة سلبية، ويصبح تأثيره العميق في النفس، سواء كان سلبيًا أو إيجابيًا، محور التركيز، والوصف، والتحليل الدقيق. فالأدب لا يعنى بالضرر الجسدي الذي يسببه المرض والألم بقدر ما يتعمق في الكشف عن الخفايا والرؤى التي يبرزها في النفس حول الكون، والحياة، والمعتقد.

يأتي المرض إلى هذا الوجود كقدر محتوم، تصدق عليه مقولة الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى في وصفه للمنايا: "رأيت المنايا خبط عشواء". يتلقاه الناس بشتى ردود الأفعال؛ فمنهم من يصمد ويصبر، ومنهم من يجزع ويضيق، أما الأدباء فيلتقطونه كأيقونة فنية ولمسة كونية تتجلى في أقلامهم بألوان متعددة، تارة حبًا وشفقة، وتارة حزنًا ومرارة، وأخرى سخرية ويأسًا.

المرض كبوابة للنقد الأدبي الحديث
تحولات جذرية في فهم المرض داخل النصوص الأدبية
لقد فتح المرض في العصر الحديث آفاقًا واسعة للنقد الأدبي، إذ لم يعد يُفهم في أي نص أدبي كمجرد عارض بيولوجي يصيب الجسد ويوهنه، بل تحول إلى رمز ثقافي تارة، ورمز وجودي سياسي تارة أخرى. هذا التحول يثير تساؤلات عميقة: هل يمكن أن ينبعث الجمال من رحم المعاناة والمرض؟ أليس من الغريب أن يلتقي الجمال والمرض معًا في نقطة واحدة؟ ألم تلاحظ يومًا أن العيون تزداد سحرًا وجمالاً حين تتعب أو تذرف الدموع؟ هذه التساؤلات تجسد العلاقة المعقدة والمتناقضة بين الألم والجمال في الوعي الإنساني والأدبي.

تجميل ملامح المرض: فن تحويل الألم إلى جمال
لقد تعمد العديد من الكتاب تجميل ملامح المرض في أعمالهم، خصوصًا عند وصف الحبيبة العليلة، حتى أصبح المرض أشبه بالجمال المأساوي. هذا التوجه امتد ليشمل المزج بين الجمال، والعبقرية، والفخامة، والوهن عند وصف الأعمال الفنية الفريدة المهجورة أو المهملة، كما فعل الشاعر والناقد الفرنسي شارل بودلير في العديد من قصائمه النثرية.

روائع أدبية تجسد المرض كرمز
أمثلة من الأدب العربي تكشف عن أبعاد المرض الرمزية
استخدم العديد من الأدباء المرض كأداة قوية لتصوير فساد المجتمع، أو القمع السياسي الذي يتعرض له الناس في مجتمعاتهم. وبذا صار الجسد العليل لغة مقاومة ضد الأنظمة الفاسدة، والمجتمعات الظالمة أو العاجزة.

"عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم: الاغتراب كمرض نفسي
تناول الكاتب المصري توفيق الحكيم في روايته "عصفور من الشرق" تبعات الاغتراب بوصفها أمراضًا داخلية نفسية تهتك كيان الإنسان وتفتك بروحه، دون أن تترك على جسده آثارًا مرئية أو ملموسة. هذه الرواية تبرز كيف أن المعاناة النفسية يمكن أن تكون مدمرة بقدر الأمراض الجسدية، بل ربما أشد فتكًا لأنها خفية وغير محسوسة للعيان.

"شرق المتوسط" لعبد الرحمن منيف: المرض السياسي
في رواية "شرق المتوسط" للكاتب السعودي عبد الرحمن منيف، يتناول الكاتب "المرض السياسي" - إذا جاز التعبير - وما يتلقاه السجناء من عذابات في المعتقلات تسبب عللاً جسدية وأمراضًا نفسية مزمنة. الموت اختناقًا في رواية "رجال في الشمس" لغسان كنفاني يُقرأ بوصفه رمزًا لمرض اجتماعي ناتج عن ضياع الهوية والشعور بعدم الانتماء. والانهيار الجسدي الذي أصاب البطل في رواية "شرق المتوسط" هو في حقيقته انهيار نفسي عصبي ناتج عن أسباب سياسية.

تعد هذه الرواية من الروايات السياسية المميزة التي تتحدث عن حال المعارضة السياسية في بلاد الشرق الأوسط عامة وما تتعرض له من تضييق واعتقالات. حين تطالع رواية "شرق المتوسط" ستجد أن المرض لم يقصد لذاته، بل كان رمزًا للوطن المريض والبيت العليل والانتماء الشاحب والحضور الباهت. ومن ذلك قوله في المقارنة بين الوجوه الممتلئة عافية والوجوه المكسوة شحوبًا:


مشاركة عبر: