النخب السياسية المعلَّبة .. أقنعة الحداثة في مرايا العالم الثالث

أخبار هنا العالم - د. بركات النمر العبادي
* تاريخ نشأة المفهوم ضمن الخطاب المعاصر:
•بعد الاستقلالات وتحويل الدولة العربية إلى دولة مركزية قوية ، بدأ يُلاحظ دور النخب المتحوّل : من قادة الفعل القومي أو التحرري ، إلى جزء من الجهاز الرسمي ، حيث أصبحت الوظائف السياسية أو الثقافية أحيانًا ترتبط بالولاء للنظام أكثر منها بخدمة جماهير واسعة أو تمثيل مجتمعي فعّال.
•في الثمانينات والتسعينات ، مع تزايد دور الإعلام الرسم ي، أدّت السيطرة الإعلامية إلى بناء صورة للنخب التي تُقدّم للجمهور — لكن في كثير من الحالات هذه الصورة كانت مصقولة ، تخفي من الخلف واقعًا أقل استقلالًا أو حماسًا.
•أثناء أحداث الربيع العربي (2010–2012) ، ظهرت انتقادات شديدة للنخب "المُمَثَّلة" إعلاميًا ، خاصة أولئك الذين كانوا يُعتبرون هم من يُلقي الخطاب التغييري ، لكن اتضح لاحقًا أن بعضهم مرتبط بالأنظمة القديمة ، أو أنه استُخدم إجراءً دعائيًا.
•بعد الربيع ، ازداد المصطلح أو التعابير الشبيهة في الإعلام والرأي العام مع النقد المتبادل: أدوات الإعلام الجديدة (مواقع التواصل) ساعدت أن يظهر هذا الجدل ، إذ يُنتقد من يُعتبر أنه “معلّب” — أي أنه يُسوّق له كبديل أو كقيادي إصلاحي ولكن باستمرار يتبع نفس الأطر المسموح بها ، ويتجنّب الخطوط الحمراء.
•حتى الآن: لا يوجد دليل أكاديمي مؤكد على من أول استخدم عبارة "النخب السياسية المعلّبة" تحديدًا.
•لكن المفهوم موجود بوضوح في النقد السياسي المعاصر من كتاب وصحفيين ومثقفين في الدول العربية ، ضمن دراسات تناقش دور النخب ، وعلاقتها بالسلطة والإعلام والمجتمع.
•الفكرة أقرب إلى مصطلح عام شعبي ونقدي أكثر من كونه مفهومًا أكاديميًا بتوثيق تاريخي دقيق.
في زحام العصور التي انكسرت فيها المرايا على وجوه الأمم ، برزت ظاهرة "النخب السياسية المعلَّبة" كأحد أكثر تجليات التزييف السياسي حضورًا في فضائنا العربي والعالم الثالث عمومًا ، ليست النخبة هنا نُطفة وعيٍ تولدت من رحم التجربة ، بل منتج سياسي مُعلّب ، خضع لعمليات فرزٍ وتغليفٍ محكمة داخل مصانع السلطة ، ليُقدَّم للشعوب على أنه خيارها الأمثل ، أو صوتها الذي لا ينطق إلا بما تسمح به آذان الحاكم.
تلك النخب لا تولد من معاناة الجماهير، بل من رحم البيروقراطية العتيقة التي تصنع الرموز كما تُصنع السلع ؛ بلا رائحة ، بلا لون ، وبصلاحية محددة ، هي نخب تتحدث بلغة الحرية دون أن تؤمن بقدرتها ، وتُزيّن خطابها بمفردات التغيير دون أن تلامس جوهره ، ترفع راية الديمقراطية في العلن ، بينما في الخفاء تبارك كل أشكال الوصاية السياسية والفكرية.
في العالم العربي، أصبح الوجه السياسي النخبوي مزيجًا من المحاكاة والامتثال ؛ فهو يلبس ثياب المثقف ، ويتحدث بعبارات الفيلسوف ، لكنه يتحرك وفق خيوط خفية يشدّها مركز السلطة والإعلام ، هذه النخب ، كما يصفها المفكر رياض الصيداوي ، «تعيش حالة انفصام بين الواقع السياسي والشعبي ، فهي تسكن قصور التحليل وتخشى النزول إلى الشارع» ، إنهم نُخب الاستعراض لا نُخب الصراع ، نُخب الخطاب لا نُخب الفعل.
وإذا ما نظرنا إلى التجربة السياسية في العالم الثالث ، نجد أن هذه الظاهرة ليست عربية المنشأ وحدها ؛ فهي نتاج الحداثة الناقصة ، تلك التي استوردت المؤسسات ولم تُنتج الوعي المؤسسي ، فكما يقول المفكر المغربي محمد عابد الجابري ، إن "التحديث من فوق لا يولّد إلا نخبة مطيعة ، تفكر بعيون السلطة وتتكلم بلسانها" ، وهكذا صارت النخب في كثير من بلدان الجنوب أشبه بـ"نباتات ظلّ" ، تعيش في إضاءة مصطنعة ، وتذبل حين تتعرض لأشعة الحقيقة.
في تلك النخب المعلّبة ، يختفي البُعد الأخلاقي لصالح البُعد النفعي ؛ تغدو السياسة سوقًا تُباع فيها المواقف كما تُباع السلع ، وتُقاس قيمة الإنسان بعدد متابعيه لا بعدد مواقفه ، لم تعد النخبة سلطة ضمير، بل أداة تسويق تُعيد إنتاج السلطة ذاتها في أثواب جديدة ، وحين تشتدّ الأزمات ، وتعلو أصوات الشعوب ، تكون تلك النخب أول من يلوذ بالصمت ، أو تتحول إلى جوقةٍ لتبرير الانكسار.
لقد آن الأوان لإعادة تعريف النخبة الوطنية في العالم العربي والعالم الثالث ، فالنخبة ليست لقبًا يُمنح في مؤتمرات ، ولا منصبًا يُورّث في دهاليز السلطة ، بل موقفٌ أخلاقي ومعرفي في وجه الزيف الجمعي ، إن الأمة التي لا تُنتج نخبها من رحمها ، ستظل تستهلك نُخبًا معبّأة في علب الاستيراد السياسي ، تُفتح عند الحاجة وتُغلق عند انتهاء الصلاحية.
فبين النخبب الحقيقية والمعلّبة ، مسافة تُقاس بجرأة السؤال ، وبمقدار ما تجرؤ على قول "لا" حين تصمت الجموع ، وفي هذا الفارق ، يُقاس نضج الوعي السياسي للأمم ، وصدق مشروعها في التحرر من التبعية والاستنساخ.
حمى الله الاردن وسدد على طريق الحق خطى شعبه وقيادة
*المراجع العلمية
1. الصيداوي، رياض. ما الذي أفشل النخب السياسية العربية؟، مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة، 2018.
2. الجابري، محمد عابد. الخطاب العربي المعاصر: دراسة تحليلية نقدية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1990.
3. كعسيس، خليدة. النخب في العالم العربي: الواقع والأدوار، مجلة جامعة باتنة للعلوم الاجتماعية، الجزائر، 2021.
4. برهان غليون. اغتيال العقل: محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية، دار التنوير، بيروت، 1985.
5. حنفي، حسن. من العقيدة إلى الثورة، دار التنوير، القاهرة، 1989.
مشاركة عبر:
-
الشرق الأوسط بين ضباب التسويات ومكر الخرائط
16/10/2025 00:31
-
السياحة العلاجية الأردنية .. من يعيد البوصلة
16/10/2025 00:31
-
النخب السياسية المعلَّبة .. أقنعة الحداثة في مرايا العالم الثالث
16/10/2025 00:31
-
مصافحة باردة تشعل التحليل السياسي: كيف ردّ الملك عبد الله على حماس ترامب في قمة السلام
16/10/2025 00:30
-
الأردن .. الحكمة التي تنحاز للحق دائماً
15/10/2025 01:41
-
ترامب ونتنياهو في الكنيست .. دغدغة عواطف لا أكثر!
15/10/2025 01:41
-
رسالة إلى العالم ..
15/10/2025 01:41
-
الجولات الاوروبية لولي العهد تعزز دعم الشباب والتكنولوجيا
15/10/2025 01:41
-
ما أسباب عدم حضور نتنياهو احتفالية شرم الشيخ
14/10/2025 00:41
-
عقوق الأردن .. (البلد الأمين لكل من تربى فيه)
14/10/2025 00:41