رسالة إلى العالم ..

أخبار هنا العالم - د. سناء يحفوفي
* أفق العروبة المشرع على القيامة...
من قلب بيروت الصّامدة أكتب بيروت مدينة الضّوء...
من بيروت التي ما برحت حجارتها تحفظ وجوه المقاومين، ومن غزّة التي تنفتح على البحر جرحًا لا يلتئم إلا بالكرامة، ينبثق النّداء إلى أمةٍ تتوزع على القارات والحدود، تستيقظ لحظات الامتحان الكبير، جسدًا واحدًا وروحًا واحدة. المدن ليست مجرّد أمكنة جغرافيّة تنفتح على العالم، في حين تكون رموزًا للرّوح العروبيّة وهي تعلن قيادتها عبر التاريخ، وترفع الصوت ضد الاستباحة، وحين تتقدّم بدمها لتصوغ عهدًا جديدًا. ففي كل صاروخ يسقط على غزة، أو مع كلّ انفجار يهزّ بيروت، يتسع النّداء: أن لا خلاص لأحد خارج الفلك العربي الكبير، وأن المصير لا يُكتب إلا بجمع الإرادات وتوحيدها.
الدّم العربي واحد، يخطّ سطوره فوق الأرض، يمدّ جسوره فوق المدى نارًا، وأفقًا يتجاوز القول، يمتزج على امتداد الساحات، فيغدو شريانًا يربط الشمال بالجنوب والشرق بالغرب. ليست الدّماء رمزًا للشقاء أو الحزن، حين تكون نبعًا جارٍ يصوغ الهوية لتذكير الأمة أنّ وجودها أكبر من حدود مرسومة على خرائط زائفة. فحين يهتف طفلٌ في غزّة أو يرفع صوته شابٌ في بيروت، فإنّ صدى همسهم يصل إلى كل بيتٍ عربي، يعيد رسم خارطة الانتماء بمداد التضحيات. هذا الدمّ المراق هو اللّغة المشتركة التي لا تحتاج إلى ترجمة، وهو الرابط الذي يتجاوز اللّهجات والسّياسات والظّروف.
الأمة في تماسكها جبهة واحدة: أجيالها الممتدة، منذ الذين حملوا الرسالة الأولى حتى الذين كتبوا اليوم حروف النهضة في الجامعات والشوارع أو المخيمات، تُستدعى جميعًا لتكون على صفٍ واحد. هذه ليست دعوة عاطفية، وإنّما استدعاء لمعنى التاريخ عينه: إنّ كل انكسار خارجي يجد ترياقه في الاتحاد الداخلي. من المحيط إلى الخليج، تختزن الأمة ذاكرة النهوض. وها هو النداء يُطلق كي تتحوّل الفكرة إلى عِبرة، ويتحوّل القول إلى فعل، والفعل إلى مشروع، والمشروع إلى نهضة جديدة. وإنّ تماسك الصفّ العربي وحده الكفيل بانعطاف زمن الاستباحة إلى زمن النّهوض حيث تلفظ الأرض رمادها وتعود الأناشيد جداول من دمٍ وضياء، وبتحويل الضعف المتفرق إلى قوةٍ موحدة تصوغ قدرها؛ إذ ينقشع غبار الذّلّ وتنهض الحجارة وتتكسّر السلاسل ويغدو الصمتُ صيحةً ونداء الحق.
أمّا الثقافة، فهي سلاح الروح، فبها تُصاغ الحرّيات، وبها تُصان الهوية كما تُصان المدن بالسلاح. الكلمة حين تُقال من قلب صادق تصبح حصنًا، والقصيدة حين تُنشد على أسماع الجماهير تتحول إلى درعٍ، والكتاب حين يُفتح يصير رايةً عاليةً تتقدّم الصّفوف. بحيث يتجلّى الدّور العميق للنّخبة العربيّة، فالمقاومة ليست عسكرية بقدر ما هي فكرية وجمالية. فمن خلال الأدب والفن والفلسفة تُحفظ معاني الكرامة، ويُعاد تشكيل المخيّلة العربيّة على نحو يجعلها حصينة أمام محاولات الطّمس والاختراق. الثقافة هي الضامن الأوحد بأن يبقى المعنى عربيًا مهما تكاثرت محاولات الهيمنة، وهي الكفيل بأن تبقى فلسطين حاضرة في الأغنية كما في البندقية، وفي الذّاكرة كما في الميدان.
التاريخ شاهد للقيامة، فالأمم التي تعرضت لأقصى درجات الاستباحة هي ذاتها التي صنعت أعظم النهضات. فمن رماد المدن تولد الشموس، ومن ركام البيوت تنبثق العزائم. والتاريخ العربي ذاته زاخر بمحطات تحوّلت فيها الهزائم إلى أبوابٍ للنّهوض، والخيبات إلى لحظاتٍ لكتابة تاريخ جديد. هذه الحقيقة، تُظهر أن التضحيات التي تُقدّم اليوم، تُخزّن طاقة روحية في جسد الأمة، وتنتظر لحظة الانفجار لتعلن بداية عهد جديد. ما دُوّن بالدّم لا يُمحى بالحبر، وما حُفظ بالتضحيات يبقى أعظم من كل معاهدات تُكتب تحت ضغط السلاح أو نفوذ القوى الكبرى.
والأفق مشرّع على المستقبل، فالتّحدي الذي نعيشه ليس خاتمة الطريق بل بدايته. وإنّ القيامة العربية ليست وعدًا مؤجلًا ولا نبوءة بعيدة، إنّها فعلٌ يتخلّق في كل موقف صمود، في كل كلمة احتجاج، وفي كل قلمٍ يكتب بمداد الرّوح، وفي كل يدٍ تبني النّفوس من جديد. إنّ العروبة ليست فقط شعارًا، إنّها المصير المتجدّد الذي يتخطى الأزمات ويصوغ العهد الجديد. أما المستقبل ينبني وفق أسسٍ عمليّة، ويُبنى على التكامل الاقتصادي، وعلى التعاون العلمي، وعلى وحدة القرار السياسي، كذلك الأمر على انبثاق جيل جديد من المثقفين يربط بين الفكر والفعل، بين الحلم والعمل.
من هذا كله ينبثق العهد الأبدي: أن كل جرح عربي يمهّد لنهضة، وأن كل شهيد هو نجمة تقود القوافل نحو فجر آخر. إنّ العروبة هي التي تفتح أفقها على القيامة، كما تكتب وصاياها في ذاكرة التّاريخ: تظل متحدة بروحها، صلبة بعزيمتها، مشرعة على الغد الجميل برحابة الصدور.
من هنا، فإنّ بيروت وغزة وسائر العواصم العربيّة، يرفعون الرّاية البيضاء على السؤال المفتوح:
أي قيامة حضاريّة تنتظر الأمة بعد أن تكتب ملحمتها الدّمويّة؟
وأي مشروع إنسانيّ يمكن أن يولد من قلب هذا الصّراع ليجعل العروبة رسالة للعالم؟
باحثة لبنانية
مشاركة عبر:
-
الشرق الأوسط بين ضباب التسويات ومكر الخرائط
16/10/2025 00:31
-
السياحة العلاجية الأردنية .. من يعيد البوصلة
16/10/2025 00:31
-
النخب السياسية المعلَّبة .. أقنعة الحداثة في مرايا العالم الثالث
16/10/2025 00:31
-
مصافحة باردة تشعل التحليل السياسي: كيف ردّ الملك عبد الله على حماس ترامب في قمة السلام
16/10/2025 00:30
-
الأردن .. الحكمة التي تنحاز للحق دائماً
15/10/2025 01:41
-
ترامب ونتنياهو في الكنيست .. دغدغة عواطف لا أكثر!
15/10/2025 01:41
-
رسالة إلى العالم ..
15/10/2025 01:41
-
الجولات الاوروبية لولي العهد تعزز دعم الشباب والتكنولوجيا
15/10/2025 01:41
-
ما أسباب عدم حضور نتنياهو احتفالية شرم الشيخ
14/10/2025 00:41
-
عقوق الأردن .. (البلد الأمين لكل من تربى فيه)
14/10/2025 00:41