جدال متأخر في تقاليد الزواج والوفاة

أخبار هنا العالم - إبراهيم غرايبة
سوف تبدو هذه المقالة في محصلتها تأييدا لاتجاه وزير الداخلية السيد مازن الفراية، مع التأكيد أن التقاليد المتبعة في الحياة الاجتماعية تتشكل وتتغير ببطء وتلقائية، ويكون تتنظيمها بالتأثير فيها واتجاهاتها، وليس بفرضها بقانون أو نظام تشريعي أو تعليمات وزارية، لكن من المؤكد أن السيد الفراية يلتقط اللحظة وتحولاتها ويشعر كمواطن وقائد اجتماعي أن التقاليد الاجتماعية اليوم تواجه أزمة كبرى، وتسير في اتجاهات فوضوية مرتبكة ومربكة.
إن العادات؛ بما هي الأفعال المتكررة بانتظام، والتقاليد؛ بما هي الأفعال والإجراءات المتبعة في المناسبات؛ تنشأ وتتشكل وتتغير وتتحور في منظومة من الاستجابات والمبادرات الجماعية لتنظيم الحياة الاجتماعية واليومية، أو ترميزها في طقوس ورموز وأغان وأمثلة شعبية؛ للتأكيد على الأخلاق والقيم والأعراف (الأخلاق: فعل الصواب وتجنب الخطأ بدوافع ذاتية، والقيم: الحكم على الأفعال والسلوك بالصواب أو الخطأ، والاعراف: القوانين غير المكتوبة لتنظيم الحياة العامة والاجتماعية) التي تضمن استمرار العلاقات والحقوق والواجبات المتبعة في تسيير مؤسسات الناس وحياتهم، وأهمها الأسرة والتكافل الاجتماعي والالتزام بالحقوق الأساسية، وأهمها الحياة والملكية والبيوت والأسر، وظلت هذه التقاليد تعمل بكفاءة نسبية دون حاجة لتنظيم قانوني أو دور مباشر للسلطة السياسية، ولم يكن ابتداء لدينا دولة مركزية حديثة قبل عام 1921، وكان الناس عبر تنظيماتهم الاجتماعية (الأسر والعشائر والقبائل والقرى والمدن) يديرون وينظمون شؤونهم الأساسية والعامة دون حضور للسلطة السياسية التي كانت ومنذ أقدم العصور سلطة لا مركزية، تقتصر علاقتها بالناس على الضرائب والدفاع ومن خلال وسطاء اجتماعيين غير تابعين لها مباشرة؛ مثل الأمراء والقادة الاجتماعيين والعشائريين.
وبدأت السلطة السياسية في مرحلة الدولة المركزية الحديثة تضمن على نحو مباشر الحقوق والواجبات الأساسية والعامة، وتحولت المجتمعات والمؤسسات الاجتماعية إلى شريك مع الدولة، وهذه ظاهرة عالمية لا تخصنا، فالعالم لم يعرف الدولة المركزية الحديثة التي نعرفها وتعودنا عليها قبل القرن السابع عشر، وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى لم تكن الدول يزيد عددها على 25 دولة يغلب عليها أنها امبراطوريات كبرى لا مركزية، واليوم فإن هيئة الأمم المتحدة تضم في عضويتها حوالي مائتي دولة أو أمة، ويجب التوقف برغم الاستطراد عند مفهوم الأمة هنا، سواء في تعريف الأمم المتحدة أو في تعريفه الضمني في الدستور الأردني (الأمة مصدر السلطات) إذ يعني أن الدولة بما هي مؤسسة سياسية وسيادية تعبر عن الأمة وترمز إليها، لكن الأمة أشمل من الدولة المؤسسة، فالدولة هي مؤسسة رئسية لدى الأمة التي تعني المجموع التفاعلي والتكويني للسلطات والمجتمعات والأسواق والأفراد والمجال العمومي بما هو مؤسسة غير مادية لكنها منظمة أو شبه منظمة؛ تستوعب الاتجاهات والجدالات والعادات والتقاليد والقيم والأعراف والثقافة والسلوك الاجتماعي والسياسي الذي تعمل بموجبه وبمقتضاه التشريعات المنظمة والانتخابات العامة والسياسات العامة في كل شؤون الحياة والسياسة والاجتماع والاقتصاد.
مؤكد ان تقاليد الزواج والوفاة في بلادنا تنتمي إلى مرحلة ما قبل الدولة الحديثة المركزية، وهي ترمز إلى ضمان الحقوق والواجبات والعلاقات، فالفاردة والجاهة والأعراس والموائد والولائم ترمز إلى الالتزام والعيش المشترك، وهذا بالطبع أمر جميل وضروري، لكن وكما نعلم اليوم أن معظم الحقوق والواجبات والعلاقات تضمنها الدولة والتشريعات النافذة، فقانون الأسر والأحوال الشخصية هو ما ينظم علاقات الناس وواجباتهم وحقوقهم وليس الأهل والعشيرة والمجتمعات، والخلافات بين الناس تنظمها المحاكم والقوانين وتنفذ عبر أجهزة السلطة التنفيذية والسياسية.
هذا لا ينفي بالتأكيد دور المجتمعات كشريك للسلطة السياسية، ومنافس أيضا، وهي منافسة ضرورية لحماية وتعزيز مكونات الأمة، و ضمان أن تكون السلطة تمثل الأمة تمثيلا صحيحا وأن تكون المجتمعات جزءا من الأمة، وليست خارجة منها، أو خارجة عليها.
أتفق ومثلي كثير من المواطنين مع وزير الداخلية في ضرورة ترشيد التقاليد الاجتماعية لتتفق أولا مع الأهداف والغايات الأساسية التي أنشأتها، ولتظل منسجمة مع روايتها المنشئة، فمن المؤكد وأظن أن هذا مصدر قلق كثير من المواطنين ومنهم وزير الداخلية أنها صارت تقاليد ورموز وطقوس منفصلة عن فكرتها الأساسية، وتحولت إلى عمليات ورموز تحمل رسالتها الذاتية والخاصة بها، وهي رسالة غير اجتماعية بالتأكيد، بل تحولت إلى دخيلة وتخدم أهواء ومصالح ومشاعر وأفكار بعيدة عن أولويات المجتمعات والأفراد الأساسية بما هي الحياة الكريمة والتضامن الاجتماعي، وتحويل القوانين إلى سلوك اجتماعي، والعكس أيضا؛ اي تحويل السلوك الاجتماعي إلى قوانين؛ تعمل وتنفذ بتلقائية دون حاجة إلى تكاليف مادية أو جهد او وقت.
وببساطة ووضوح فإن التقاليد الاجتماعية تقاس وتقيم ويؤخذ بها أو تغير أو ترفض؛ على أساس أنها تحسن الحياة وتقلل الجهد والوقت والمال لتنظيم الحياة والحقوق العامة. وبصراحة لا أعرف كيف نجعلها كذلك. لكني أعرف ومثلي كثير من المواطنين؛ نعرف أن التقاليد الاجتماعية السائدة اليوم تحتاج إلى مراجعة شاملة واستراتيجية (استراتيجية بمعنى محاكمتها لغاياتها الأساسية والمنشئة لها؛ وتقرير بقائها أو تغييرها أو حتى الاستغناء عنها) .. والأكثر صعوبة وتعقيدا أننا دخلنا ويا للهول في مرحلة ما بعد الدولة المركزية الحديثة، وتلك قصة طويلة يجب أن ننفر جميعا سلطات ومجتمعات وأفرادا وشركات وأسواقا لنفكر فيها طويلا ونستمع إلى بعضنا البعض بصدق وكفاءة، ووعي كبير وشامل؛ أكبر وأشمل من كل ما تعملناه في المدارس والجامعات والمؤسسات الإعلامية والإرشادية والدينية، .. والمسسلسلات التركية.
مشاركة عبر:
-
الشرق الأوسط بين ضباب التسويات ومكر الخرائط
16/10/2025 00:31
-
السياحة العلاجية الأردنية .. من يعيد البوصلة
16/10/2025 00:31
-
النخب السياسية المعلَّبة .. أقنعة الحداثة في مرايا العالم الثالث
16/10/2025 00:31
-
مصافحة باردة تشعل التحليل السياسي: كيف ردّ الملك عبد الله على حماس ترامب في قمة السلام
16/10/2025 00:30
-
الأردن .. الحكمة التي تنحاز للحق دائماً
15/10/2025 01:41
-
ترامب ونتنياهو في الكنيست .. دغدغة عواطف لا أكثر!
15/10/2025 01:41
-
رسالة إلى العالم ..
15/10/2025 01:41
-
الجولات الاوروبية لولي العهد تعزز دعم الشباب والتكنولوجيا
15/10/2025 01:41
-
ما أسباب عدم حضور نتنياهو احتفالية شرم الشيخ
14/10/2025 00:41
-
عقوق الأردن .. (البلد الأمين لكل من تربى فيه)
14/10/2025 00:41