المعلّم حين يعلّمنا كيف نفكّر ، لا ماذا نفكّر

أخبار هنا العالم - د. لينا جزراوي
لا يمكن النظر إلى مهنة التعليم كأي مهنة أخرى، فنحن نتحدث هنا عن مهمة تُعدّ من أخطر المهمات المجتمعية وأدقّها، إذ يتعلّق بها شكل المجتمع وبنيته الثقافية، وقوته في مواجهة التحديات الحياتية.
فالمعلّم ليس مجرد ناقل للمنهاج وشارحٍ له يُلقيه في عقول الطلاب، بل هو من يُمكّنهم من امتلاك أدوات الفهم والتحليل والنقد التي تُرسّخ المعلومة وتجعلها حيّة وفاعلة في الواقع. لذلك لا أرى أن المعلّم مجرّد ناقل لما هو موجود في الكتب، بقدر ما هو معلّمٌ لماهية المعلومة نفسها: كيف تُفهم، وتُناقش، وتُختبر في الحياة.
نحن اليوم نعيش عصر التحوّل الرقمي، حيث أصبح الحصول على المعلومة أسهل من أي وقت مضى، بفضل التطبيقات والمنصات الرقمية التي غزت أغلب المدارس. غير أن هذا التيسير لا يُقلّل من دور المعلم، بل يزيده أهمية، إذ لم يعد دوره إيصال المعلومة فحسب، بل تعليم كيفية الاستفادة منها، وتطويرها، والبناء عليها. وهذا يفترض بطبيعة الحال أن يكون معلمونا على تواصل دائم مع أساليب التعليم الحديثة وأدواتها المتطورة.
لقد أصبح المعلّم اليوم أهم من المادة التي يدرّسها، في زمنٍ باتت فيه المعرفة متاحة بين أيدي الطلاب بكبسة زر. والتعليم المعاصر يعيش مأزقًا حقيقيًا بين سندان الأخلاق ومطرقة المعرفة؛ فبينما لا يمكن تجاهل التطور الرقمي الهائل، يجب في الوقت نفسه الحذر من تحوّل أدوات المعرفة إلى وسائل تضييع أو تضليل إذا أسيء استخدامها. وهنا تتجلّى المسؤولية الكبرى للمعلم في تحقيق التوازن بين المعرفة والأخلاق.
من هنا، لم يعد مقبولاً أن يبقى المعلم على طريقته التقليدية في التعليم. ومن الضروري اليوم أن يخضع المعلمون لتدريبات متقدمة في الفلسفة وأدوات النقد والتفكير، وتطوير مهارات التعليم والتوجيه، لأن المعلم أصبح قلب العملية التعليمية لا منهجها وحده.
وإنني أتحفظ على اعتبار التعليم مجرد مهنة، بل أراه موهبة وفضيلة قبل أن يكون عملاً وظيفيًا. فالتعليم عملٌ جليل، تحركه في جوهره محبة المعلّم لما يفعله، لا الرغبة في الأجر المادي.
كما كان الحال في زمن الإغريق، حين كانت الفلسفة فضيلة وليست مهنة، وكان المعلّم الذي يتقاضى أجرًا يُعدّ “سفسطائيًا” لا يُحترم مسعاه.
من هنا، أقدّر وأحترم كل معلمٍ ومعلمةٍ أحبّا التعليم قبل أن يكون عملًا، لأن هذا الحب يعني الإخلاص والتفاني، ويجعل الضمير هو المحرّك الأول في أداء الرسالة، قبل الراتب والمكاسب.
لكن هذا لا يعني أن ظروف المعلمين المعيشية أقل أهمية؛ بل يجب أن تكون كرامتهم ورُقيّ أوضاعهم في مقدمة الأولويات، لأن التعليم من أعظم الفضائل التي يمكن أن يقوم بها الإنسان.
علينا أن نهتم بموهبة المعلّم، وضميره، وحبّه لرسالته، لأنه يمسك بين يديه مصير جيلٍ كامل؛ جيلٍ قد يخرج إلى الحياة أمّيًّا رغم تعليمه، أو يخرج متحصّنًا معرفيًّا، يمتلك عقلًا ناقدًا قادرًا على اكتشاف الحقيقة في زمنٍ يفيض بالزيف والتضليل.
تحية إلى المعلّم الحقيقي، الصادق، المحبّ لمهنته، صاحب الضمير الحيّ في التعليم. وتذكّروا دائمًا أن التعليم فضيلة قبل أن يكون مهنة.
كما قال سقراط: “المعلّم الحقيقي لا يملأ العقول، بل يُشعل فيها نور التفكير".
* رئيسة الجمعية الفلسفية الأردنيّة
مشاركة عبر:
-
عندما تتحول الطبيعة إلى مصدر دخل… فهل ننتظر أم نبدأ
17/10/2025 00:37
-
إعلام قرار .. أمانة عمّان
17/10/2025 00:37
-
العصف الذهني المجتمعي
17/10/2025 00:37
-
برقية إلى الملك المؤسس .. ارتباط مجيد
17/10/2025 00:37
-
استشهاد القائد يحيى السنوار... الصمت الذي دوّى في قلب الاحتلال
16/10/2025 16:06
-
الشرق الأوسط بين ضباب التسويات ومكر الخرائط
16/10/2025 00:31
-
السياحة العلاجية الأردنية .. من يعيد البوصلة
16/10/2025 00:31
-
النخب السياسية المعلَّبة .. أقنعة الحداثة في مرايا العالم الثالث
16/10/2025 00:31
-
مصافحة باردة تشعل التحليل السياسي: كيف ردّ الملك عبد الله على حماس ترامب في قمة السلام
16/10/2025 00:30
-
الأردن .. الحكمة التي تنحاز للحق دائماً
15/10/2025 01:41