الرجاء الانتظار...

Main Logo
اخبار هنا العالم

حين علّمتنا الأندلس كيف نعيش معاً


السبت   00:12   11/10/2025
Article Image

أخبار هنا العالم - د. كمال عبدالملك

ليست الأندلس قصة من الماضي أو أطلال حضارة اندثرت، بل تجربة إنسانية حيّة تُعلّمنا كيف يمكن للعقل أن يتفوّق على التعصب، وللحوار أن يكون طريقاً للسلام لا ميداناً للصراع. في قرطبة وغرناطة وإشبيلية، عاش الناس قروناً في تناغم قلّ نظيره، يجمع بين الدين والعلم، والعقل والجمال، حتى صارت الأندلس رمزاً لما يمكن أن تصنعه التعددية حين تُدار بالحكمة لا بالهيمنة.

في مكتبة قرطبة الكبرى، كان ابن رشد يناقش فلسفة أرسطو مع طلاب من المسلمين والمسيحيين واليهود، ولم تكن تلك مشاهد نادرة، بل أسلوب حياة يقوم على احترام العقل والإيمان بأن الحقيقة لا يملكها طرف واحد، وفي أسواق قرطبة المزدحمة، كانت المصلحة المشتركة تتغلّب على العصبيات، لأن التعاون كان أسمى من الخلاف.

كان ابن زيدون يكتب لولادة بنت المستكفي، وكانت ألحان زرياب تنساب في أزقة غرناطة، تجمع بين نغم الشرق وإيقاع الغرب. هناك، تحوّلت الفنون إلى لغة سلام عابرة للأديان والأعراق، تُذكّر الناس بأن الجمال يُوحّد حين تعجز السياسة عن الجمع.

وفي العمارة، نرى دروس الأندلس مكتوبة بالحجر، من جامع قرطبة إلى قصر الحمراء، يلتقي الإبداع بالإيمان ليعبّرا عن وحدة في التنوع، وعن جمال لا يعرف الغلوّ، بل التوازن والتكامل بين الإنسان والطبيعة. ولعلّ روعة هذا الإرث لاتزال حاضرة حتى اليوم في صدى قصر الحمراء، الذي أعادت دبي إحياءه في قصر «رويال ميراج»، حيث تتجدد روح غرناطة في عمارة أندلسية تنبض بعبق التاريخ.

هذه ليست لوحات من ماضٍ رومانسي، بل هي دروس عملية لعصرنا الذي يعاني الانقسام والحروب والنزاعات الطائفية. من الأندلس نتعلم أن الحوار الصادق أقدر على نزع فتيل الخلاف من السلاح، وأن الثقافة والفنون يمكن أن تكون مائدة لقاء حين تضيق السياسة، وأن السوق والمدرسة والجامعة هي ميادين العيش المشترك، إن صلحت النوايا.

في عالمنا اليوم، حيث تُستبدل الكلمة بالرصاصة، وتُختزل الهوية في الطائفة، تهمس لنا الأندلس بأنه لا خلاص في العزلة، بل في التعايش. أن نختلف لا يعني أن نتنافر، بل نكمل بعضنا بعضاً، أن نحاور لا يعني أن نتنازل، بل نبحث عن النور الذي يجمعنا جميعاً - نور الحقيقة والعدالة والإنسانية.


مشاركة عبر: