الرجاء الانتظار...

Main Logo
اخبار هنا العالم

وزير الداخلية .. حين مارس حقّه كمواطن قبل أن يكون وزيرًا


السبت   00:12   11/10/2025
Article Image

أخبار هنا العالم - د. بركات النمر العبادي

لم يكن ما فعله وزير الداخلية الأردني مجرّد إجراء إداري أو حملة توعوية عابرة ، بل كان صرخة وعي صادقة أطلقها باسم كل مواطنٍ ضاق صدره بما آل إليه حال المجتمع من مبالغات شكلية وسلوكيات مُرهقة للوجدان والجيب معًا.

لقد تجرّأ الوزير على قول ما كان الجميع يهمس به في المجالس الخاصة : أننا أصبحنا سجناء لعادات تُرهقنا أكثر مما تُعبّر عنّا ، وأننا بتنا نقيس قيمتنا بما نُهدره لا بما نُنتجه ، وبما نُظهره لا بما نُخفيه من خير ونعلنه ، وما الجميع الا مقلد لقلة تعتبر نفسها قا ئدة للمجتمع .

لقد مارس الوزير حقّه كمواطن قبل أن يتحدث بسلطة المنصب ة ، فهو، مثلنا جميعًا ، يرى في الأعراس التي تتحوّل إلى استعراض ، وفي الولائم التي تتجاوز حدود المعقول ، وفي إطلاق العيارات النارية وكأنها إعلان عن البطولة ، مظاهر تُعبّر عن خلل في منظومة القيم أكثر مما تُعبّر عن كرم أو فخر ، وهو، مثلنا، يأسف حين يرى بعض التقاليد تتحوّل إلى عبءٍ اجتماعي يُقاس بالديون والتكاليف لا بالمحبة والتواصل.

إن مبادرته ليست نهيًا عن الفرح أو تقييدًا للتقاليد، بل دعوة إلى تهذيبها ، إلى إعادة معناها الإنساني بعد أن ابتلعها الطابع الاستعراضي ، هي وقفة أمام مرآة الحقيقة التي تهربنا منها طويل ًا؛ مرآة تُظهر أن جزءًا من أزمتنا اليوم ليس اقتصاديًا فقط ، بل ثقافي وأخلاقي في جوهره.

وفي هذا الموقف ، يتجلّى عمق الفكر المحافظ الأردني في أجمل صوره ؛ فالمحافظة ليست جمودًا ولا رفضًا للتغيير، بل هي سعيٌ للإصلاح من داخل النسق ، لا على أنقاضه ، هي وعيٌ بأن المجتمع لا يُبنى على القطيعة ، بل على المراجعة الواعية ، وأن حماية العادات لا تعني تأبيد الخطأ ، بل تصويب المسار.

من هنا ، فإن مبادرة الوزير تلتقي مع روح المحافظة بوصفها وعيًا بالمسؤولية التاريخية ، ومسعى لحماية القيم من التكلّس ، والتقاليد من التورّم ، والمجتمع من أن يتحوّل إلى مسرح للمظاهر بدل أن يكون فضاءً للمعنى.

لقد قال الوزير ما يجب أن يُقال ، لا بصفته وزيرًا بل بصفته ضميرًا عامًا ، وحين يتحدّث الضمير باسم الدولة ، فذلك يعني أن الدولة بدأت تستمع إلى صوت المجتمع لا من فوقه ، بل من داخله — من قلب المواطن الذي يريد أن يرى بلده أكثر اتزانًا ، وأكثر صدقًا مع ذاته.

إننا في الحقيقة ، لا نحتاج إلى قرارات جديدة بقدر ما نحتاج إلى ثقافة جديدة في النظر إلى أنفسنا. وثقافة الوزير في هذا الموقف كانت ببساطة : أن نكون صادقين مع واقعنا ، وأن نتوقف عن تجميل أخطائنا باسم "العادات". فالمجتمعات التي تحترم نفسها لا تخاف من النقد ، بل تخاف من التبرير ، وهنا تبدأ أولى خطوات الإصلاح الحقيقي.

إنّ كل إصلاح حقيقي يبدأ من الوعي بالخلل ، لا من إنكاره له ، وما فعله وزير الداخلية ليس سوى استعادةٍ لهذه البوصلة الغائبة ؛ فحين يُمارس المسؤول حقّه في النقد ، فإنه يذكّرنا بأن المواطنة ليست امتثالًا أعمى ، بل مشاركة في الوعي الجماعي.

لقد آن الأوان لأن ندرك أن المجتمعات لا تنهض بالشعارات ، بل بتحويل الأخلاق إلى سلوك ، والعقل إلى ممارسة، والكرامة إلى وعي ، فالإسراف لا يُختزل في المال ، بل هو شكل من التبدّد الوجودي حين يفقد الإنسان اتزانه بين الحاجة والرغبة ، بين الفخر والادّعاء ، والمجتمع الذي يتصالح مع اعتداله ، هو المجتمع الذي يتصالح مع ذاته ، لأن الاعتدال ليس ضعفًا ، بل قوّة الحكمة أمام غواية المظاهر. ولأن الظاهرة التي تناولها الوزير تعتبر حديثة العهد نسبيا في المجتمع الاردني، فإنه يمكن القول بثقة أنها انتشرت في البلاد عبر التقليد والقدوة والتأثر والتأثير ، والناس لا تتأثر عادة ولا تقلد المستوى الأدنى بل تتأثر وتقلد وتقتدي بالمستويات الاعلى ، وفي قلب هذه المستويات يقبع رؤساء الحكومات والوزراء والمدراء ومن هم في حكمهم ، فهل يمكن لهؤلاء أن يتقدموا الصفوف فعلا ، و يكونوا قدوة للمواطنين في مثل هذة المناسبات العامة و الخاصة ، لكي تنتشر العادات الطيبة في المجتمع ، فتقل مظاهر الإسراف والتبذير و التباهي والاستعراض وتعديل ثقافة المجتمع أو تغييرها نحو ما هو افضل.

هكذا يمكن ان تكتسب مبادرة الوزير معناها الأعمق: أن تكون الدولة ضميرًا ، والمواطن عقلًا ، والعادة فعلًا واعيًا لا تكرارًا أعمى ، ففي لحظة كهذه ، يصبح الإصلاح فعلاً أنطولوجيًا قبل أن يكون قرارًا سياسيًا — فعلًا يعيد الإنسان إلى مركز المعادلة، ويعيد للفضيلة مكانها الطبيعي في الوعي الجمعي ،وحين نبلغ تلك اللحظة، نكون قد بدأنا نكتب تاريخًا جديدًا، لا في القوانين فقط، بل في الوجدان الأردني ذاته.

حمى الله الاردن و سدد على طريق الحق خطى قيادتة و شعبه .


مشاركة عبر: