الرجاء الانتظار...

Main Logo
اخبار هنا العالم

الأمم المتحدة وإعلان المجاعة في غزة…ماذا بعد؟


الجمعة   15:26   22/08/2025
Article Image

البرفسور عبدالله سرور الزعبي
مركز عبر المتوسط للدراسات الاستراتيجية
اليوم وقد انتهى الربع الاول من القرن الحادي والعشرين، والعالم يفتخر بما تحقق من انجازات علمية وفكرية ومستوى ديمقراطي واخلاقي، يقال عنه انه غير مسبوق، تسجل الأمم المتحدة رسميًا أن غزة تواجه مجاعة فعلية، وأن أكثر من مليوني إنسان يعيشون على حافة الفناء. المفارقة أن الكارثة لا تقع في منطقة نائية بعيدة عن الأنظار، بل أمام عدسات الإعلام، وعلى طاولة مجلس الأمن، وفي تقارير المنظمات الإنسانية. وهنا تتحقق، كما وصفت حنّة أرندت، “تفاهة الشر”، حين يتحول موت المدنيين إلى مجرد أرقام في تقارير دورية.

الحرب الأخيرة قد تكون اندلعت بذريعة وفرتها قيادات فصيل (لم تقراء الواقع العالمي والاقليمي كما ينبغي) لاسرائيل، عبر عملياتها العسكرية يوم 7/10/2023، لكن السؤال الجوهري يبقى: هل الذرائع العسكرية، مهما كانت، تبرر تحويل شعب كامل إلى رهينة للجوع والدمار؟ كما قال جان بول سارتر، "الوسيلة التي تُشرعن الإبادة ليست وسيلة دفاع، بل جريمة مضاعفة.” ما يجري في غزة اليوم يعيد طرح السؤال الأخلاقي الأكبر، هل العقاب الجماعي مقبول في القرن الحادي والعشرين؟

فاذا كان الجميع يعرف بان القانون الدولي الإنساني واضح في تجريمة لاستخدام الغذاء كسلاح حرب، واتفاقيات جنيف نفسها تنص على حماية المدنيين وضمان وصول المساعدات الإنسانية في أوقات النزاعات. ومع ذلك، فإن تقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، تفيد بأن أكثر من 80% من سكان غزة يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، بينما يعيش أكثر من نصف مليون شخص في ظروف “شبيهة بالمجاعة”.

كما ان اللجنة الدولية للصليب الأحمر وصفت الوضع بأنه “من أكثر الأزمات قسوة في العصر الحديث”، فيما حذرت منظمة الصحة العالمية من أن “الأطفال في غزة يواجهون خطر الموت جوعًا ومرضًا بمعدلات غير مسبوقة”. لكن أمام هذه الأرقام الصادمة، لم ينجح المجتمع الدولي حتى الآن في فرض ممرات إنسانية دائمة، ولم يُجبر إسرائيل على الالتزام بواجباتها كقوة احتلال. وهنا يظهر الخلل العميق في النظام الدولي، نصوص قانونية صارمة، مقابل واقع تُديره المصالح والقوة وحدها.

الجميع يعلم بان المجاعة لا تقتل الجسد وحده، بل تفتت النسيج الاجتماعي للمجتمع. الأطفال الذين يكبرون وسط طوابير انتظار الخبز، والأمهات اللواتي يعجزن عن توفير الغذاء لأطفالهن، والشباب الذين يفقدون الأمل في المستقبل، هؤلاء جميعًا يشكلون لوحة مأساوية لمجتمع يُعاد تشكيله قسرًا تحت ضغط الجوع واليأس.

وكما كتب أمين معلوف: “حين يجوع الإنسان، لا ينهار جسده فقط، بل ينهار معه الأمل والمعنى.” وفي غزة، المعنى ينهار كل يوم، مدارس مغلقة، مستشفيات بلا دواء، بيوت مهدمة، وأجيال تُربّى على فكرة أن النجاة الفردية هي الهدف الوحيد.

ما يجري في غزة ليس مجرد أزمة إنسانية، بل أداة سياسية بامتياز.
إسرائيل تقدم نفسها كطرف يمارس “الدفاع عن النفس”، بينما تستخدم التجويع كوسيلة ضغط لإضعاف المجتمع الفلسطيني من الداخل ودفعه للقبول بالتهجير الطوعي قبل القسري.
هذا التحول من الحرب العسكرية إلى حرب التجويع يعني أن المدنيين أصبحوا هم الهدف الفعلي.

غوردون براون، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، وصف ما يحدث بأنه “امتحان أخلاقي للنظام الدولي”، ونعوم تشومسكي أكد مرارًا أن “غياب المساءلة يحوّل الجرائم إلى سوابق قابلة للتكرار”.
إن استمرار المجاعة في غزة يعني ببساطة أن العالم يقبل بسابقة جديدة، شرعنة استخدام الغذاء كسلاح مشروع في النزاعات.

وسط هذا المشهد القاتم، برز الموقف الأردني بقيادة الملك عبد الله الثاني كأحد الأصوات العربية الأكثر وضوحًا في التحذير من خطورة ما يحدث في غزة. فالأردن، الذي يتحمل تاريخيًا أعباء القضية الفلسطينية ويستضيف ملايين اللاجئين، اعتبر أن استخدام التجويع كسلاح هو جريمة ضد الإنسانية لا يمكن السكوت عنها.

الملك عبد الله الثاني شدد في أكثر من محفل دولي، من الأمم المتحدة إلى القمم الأوروبية، على أن “التجويع والإبادة لا يمكن أن يكونا أدوات تفاوض أو وسائل حرب”، داعيًا إلى وقف فوري للحصار وإيصال المساعدات بشكل مستدام. كما قاد الأردن، عمليًا، جهود إيصال المساعدات عبر الجسر الجوي والإسقاطات الإنسانية، في وقت اكتفت فيه كثير من العواصم بالتصريحات.
هذا الموقف يعكس إدراكًا استراتيجيًا بأن استمرار المجاعة في غزة لن يقتصر أثره على الفلسطينيين وحدهم، بل سيقود إلى زعزعة استقرار الإقليم بأسره، ويترك جراحًا مفتوحة ستنعكس على مستقبل المنطقة لعقود طويلة.



مشاركة عبر: