الرجاء الانتظار...

Main Logo
اخبار هنا العالم

دولة بلا حدود...إسرائيل واستراتيجية الفوضى الدائمة


الأربعاء   15:20   01/10/2025
Article Image

أخبار هنا العالم - مركز حزب عزم للدراسات الاستراتيجية

منذ إعلان قيامها عام 1948، لم تُظهر إسرائيل التزامًا واضحًا بحدود جغرافية محددة. بل تعاملت معها كأدوات مرنة يمكن تجاوزها وفقًا لمصالحها الاستراتيجية والعقائدية، بوصفها خطوطًا مؤقتة قابلة للتغيير وفق موازين القوة. هذه الرؤية لم تكن طارئة أو نتاج لحظة حرب، بل يُجسد رؤية راسخة في الفكر السياسي والأمني الإسرائيلي، ويكشف عن طبيعة الدولة التي ترى في التوسع عنصرًا وجوديًا لا مجرد خيار سياسي، وجزء أصيل من العقيدة الإسرائيلية اليهودية، التي تجمع بين الإرث التوراتي والرؤية الأمنية والتوسعية الحديثة.

هذا الموقف يضع إسرائيل في تناقض دائم مع الشرعية الدولية، ويجعلها مصدر تهديد لاستقرار المنطقة، إذ لا ترى نفسها مقيدة بالاتفاقيات أو المعاهدات، بل تنظر إليها كأدوات مرحلية لتخفيف الضغوط، بينما تبقى غايتها النهائية إعادة تشكيل الخرائط بما يخدم مشروعها.

تعتمد إسرائيل على ما يمكن تسميته استراتيجية الحدود المؤقتة، حيث لا تنظر إلى الخرائط الدولية باعتبارها نهائية، بل كمساحات مفتوحة لإعادة الرسم متى سمحت الظروف. هذا ما عبّر عنه دافيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، حين قال "حدود إسرائيل ترسمها قدرات جيشها لا خرائط الآخرين".
هذا التصور ترجم نفسه في الواقع، السيطرة الكاملة على القدس الشرقية عام 1967 ثم إعلانها عاصمة أبدية وموحدة، وضم الجولان السوري عام 1981، والتوسع الاستيطاني المتسارع في الضفة الغربية. كل ذلك يعكس قناعة بأن الأمن لا يتحقق إلا بالسيطرة الميدانية لا بالاتفاقيات.

منذ اتفاقية سايكس بيكو عام 1916، التي قسّمت المشرق العربي إلى مناطق نفوذ بريطانية وفرنسية، ظلّت الحدود في المنطقة أقرب إلى خطوط على الرمال والحصى، أكثر منها حدودًا راسخة. هذه الحدود صُممت في غرف مغلقة بعيدة عن إرادة شعوب المنطقة، ما جعلها هشة وقابلة للتغيير مع كل صراع أو تحول إقليمي.

إسرائيل استوعبت هذه الحقيقة مبكرًا، فتعاملت مع الحدود بوصفها مؤقتة، ومتحركة، وقابلة لإعادة الرسم كلما سمحت الظروف العسكرية والسياسية. لذلك، لم تعتبر نفسها ملزمة بالخط الأخضر لعام 1949، بل سعت إلى تجاوزه في حروب 1956 و1967 و1973، ثم كرّست وجودها العسكري والسياسي في أراضٍ جديدة. ومن هنا، برزت فلسفتها في أن الأمن لا يُبنى عند الخطوط الفاصلة، بل بالسيطرة على العمق وتغيير الخرائط وفق مصالحها، وهو الامر الذي عبر عنه موشيه بوضوح "حدود إسرائيل هي حيث يقف آخر جندي من جنودها"، هذا التصريح يلخص العقلية التي ترى في القوة العسكرية أداة لرسم الجغرافيا بدلًا من الدبلوماسية أو القانون الدولي.

على الأرض، تتجلى هذه العقيدة في بناء المستوطنات، فرض الحصار على غزة، تنفيذ عمليات عسكرية متكررة في لبنان وسوريا، والتدخل الأمني في مناطق السلطة الفلسطينية. كل هذه السياسات تعكس مقاربة تقوم على أن الحدود غير ثابتة، بل تُرسم بالقوة، مبررة كل ذلك بذريعة الأمن.

المفكر الإسرائيلي آرييه شافيت كتب "إسرائيل لا تستطيع أن تعيش ضمن حدود ضيقة، فهي ترى نفسها أكبر من مساحتها وأصغر من تهديداتها، ولهذا فإنها تعيش في مفارقة دائمة تدفعها إلى تجاوز حدودها الطبيعية". هذه الرؤية تبرر استمرارها في سياسة القوة لفرض حدود جديدة على الأرض، والصراع مفتوحًا بدلًا من تسويته.

ورغم توقيع إسرائيل على معاهدات سلام مع مصر (1979) والأردن (1994)، وانخراطها في عملية أوسلو (1993)، إلا أن تعاملها مع هذه الاتفاقيات كان براغماتيًا، أقرب إلى استراحة تكتيكية منه إلى التزام استراتيجي، وذلك بهدف كسب الوقت وتخفيف الضغوط الدولية. ان مثل هذا الطرح يتجلى في مقولة إسحاق شامير، رئيس الوزراء الأسبق، بعد مؤتمر مدريد "كان هدفنا إطالة أمد المفاوضات عشر سنوات، نُضاعف خلالها عدد المستوطنين". هذا يعكس بوضوح أن السلام بالنسبة لإسرائيل ليس إنهاء الصراع، بل إدارة الزمن بما يخدم مشروعها الاستيطاني.

في العقيدة الأمنية الإسرائيلية، الحدود لا تكفي لضمان الأمن. بل تسعى إسرائيل إلى ما يُعرف بالعمق الاستراتيجي، أي السيطرة على مناطق واسعة خارج حدودها الرسمية لتقليل المخاطر.
ولهذا السبب تصر إسرائيل على الاحتفاظ بوادي الأردن، وتعتبره خط الدفاع الأول ضد أي تهديد قادم من الشرق. كما تبرر تدخلها المستمر في سوريا ولبنان بذريعة منع قيام ممرات إيرانية، فيما تستخدم غزة كمسرح لتطبيق سياسة جز العشب، لا بل العمل على التطهير العرقي والابادة البشرية، لمنع أي قوة فلسطينية من تثبيت معادلة جديدة على الأرض، ولفرض ترتيبات أمنية في غزة لا تعترف بالسيادة الفلسطينية.

المبعوث الأمريكي باراك أشار مؤخرًا إلى أن إسرائيل لا تملك تعريفًا واضحًا لحدودها النهائية. هذا التصريح كشف عن إدراكًا دوليًا لهذه الذهنية، وعن وعي متزايد في الأوساط الأمريكية والدولية بأن إسرائيل تتعامل مع الحدود بانتقائية، وأن سياساتها الميدانية تكشف عن رغبة مستمرة في فرض وقائع جديدة، وتُعيد صياغتها وفق الظروف. هذه التصريحات وضعت إسرائيل في مواجهة محرجة مع العالم، لكنها لم تُغيّر من سلوكها بسبب عجز المجتمع الدولي عن فرض التزام واضح عليها.

العالم، رغم الدعم التقليدي من الولايات المتحدة والغرب، بدأ يزداد إدراكًا لخطورة السياسات الإسرائيلية بوصفها دولة توسعية تُهدد الاستقرار الإقليمي. الانتقادات الأوروبية المتكررة لسياسات الاستيطان، وتنامي حملات المقاطعة الاقتصادية، كلها مؤشرات على تآكل صورة إسرائيل كدولة طبيعية. أما على مستوى الرأي العام العالمي، فقد أصبح واضحًا أن إسرائيل ترفض أي التزام حقيقي بالشرعية الدولية.
المفكر الإسرائيلي يشعياهو ليبوفيتش، حذّر مبكرًا من أن الاحتلال سيحوّل إسرائيل إلى دولة استيطان عنصري ويجعلها في عزلة أخلاقية وسياسية. اليوم، تبدو هذه النبوءة أكثر قربًا من الواقع.

في العمق، تقوم العقيدة الإسرائيلية على فكرة أرض الميعاد، وهي عقيدة توراتية تُعطي شرعية دينية لممارسات التوسع والضم. هذا ما عبّر عنه مناحيم بيغن بقوله "يهودا والسامرة ليستا أراضٍ محتلة، بل قلب أرض إسرائيل التاريخية". هذه العقيدة ليست مجرد خطاب ثقافي، بل تحولت إلى سياسة عملية تبناها اليمين الإسرائيلي، وتُترجم في كل خطوة، بدءًا من ضم القدس والجولان، وصولًا إلى مشاريع التهويد والاستيطان في الضفة الغربية، كجزء لا يتجزأ من ارض إسرائيل الموعودة، رغم الادانات الدولية المتكررة.
هذا النهج يجعل إسرائيل مصدر توتر دائم في الاقليم، إذ تُصر على فرض واقع يتناقض مع تطلعات شعوب المنطقة، ما يولّد موجات مستمرة من الصراع. من لبنان إلى غزة، ومن الضفة إلى الجولان، تقف إسرائيل كعامل رئيسي في زعزعة الاستقرار، وهو ما حذّر منه المفكر الإسرائيلي يشعياهو ليبوفيتش حين وصف الاحتلال بأنه "قنبلة أخلاقية وسياسية" ستُفجر إسرائيل من الداخل والخارج. اليوم، يبدو أن هذه القنبلة باتت تهدد أيضًا استقرار الشرق الأوسط بأكمله، حيث تُغذي الحروب، وتُفاقم التطرف، وتمنع أي إمكانية لبناء نظام إقليمي مستقر.

الاعتراف المتزايد بدولة فلسطين من قبل برلمانات ودول عديدة في العالم شكل خطوة رمزية مهمة نحو الشرعية الفلسطينية. هذه الخطوات تمثل تحديًا لإسرائيل لأنها تُرسّخ حدود 1967 كمرجعية دولية للحل. لكن رد إسرائيل كان رفضًا قاطعًا، واتهام هذه الخطوات بأنها غير بنّاءة وأحادية الجانب. الا ان هذه الاعترافات تفرض واقع جديد، وتكشف عن عزلة متزايدة لإسرائيل أمام الشرعية الدولية، حتى وإن استمرت في التعويل على الدعم الأمريكي.
الأردن، بحكم موقعه الجغرافي ودوره التاريخي، يقف بقيادته الهاشمية، في مواجهة مباشرة مع سياسات إسرائيل. عمان ترى أن رفض إسرائيل للحدود يُهدد أمنها الوطني، ويفتح الباب أمام مشاريع الترانسفير. لذلك، يتمسك الأردن، ويواصل الحراك لدعم الاعتراف الدولي بفلسطين، والتأكيد على حل الدولتين وفق حدود 1967، باعتبار ذلك الضمانة الوحيدة لاستقرار المنطقة ومنع أي محاولات لفرض حلول على حسابه، وتهديد سيادته.

الموقف الأردني، لا يقف عند حدود الدولة الرسمية، بل يتسع ليشمل الأحزاب السياسية الأردنية التي تنظر بعين القلق إلى مشاريع إسرائيل التوسعية. هذه الأحزاب ترى أن أي تجاوز للحدود المتفق عليها أو محاولات لتصفية القضية الفلسطينية يشكل تهديدًا مباشرًا للهوية الوطنية والسيادة الأردنية.
وقد عبّر حزب عزم في أكثر من مناسبة عن وقوفه خلف الملك في رفضه الحازم لمخططات إسرائيل، مؤكدًا أن كل ما يُطرح تحت عناوين مثل الوطن البديل، أو التوطين النهائي، او التهجير، مرفوض بالكامل. الحزب يرى أن مواجهة هذه المخططات تتطلب تعزيز الوحدة الوطنية الداخلية، وبناء موقف عربي ودولي متماسك يجبر إسرائيل على العودة إلى حدود الشرعية الدولية.

هذا الموقف يعكس أن الصراع مع إسرائيل ليس مجرد شأن دبلوماسي، بل قضية وجودية يتشارك فيها النظام السياسي والأحزاب والمجتمع الأردني بأسره.
ان حزب عزم يرى ان استمرار إسرائيل في رفض الاعتراف بالحدود، واعتمادها على القوة لفرض واقع جغرافي وسياسي جديد، يفتح الباب أمام ثلاثة سيناريوهات رئيسية، الأول، استمرار إسرائيل بالتوسع عن طريق سياسة الاستيطان والضم، معتمدة على الدعم الأمريكي وضعف النظام العربي. هذا السيناريو يعزز مكانتها العسكرية مؤقتًا، لكنه يُفاقم عزلتها الدولية ويُعرضها لصدامات مفتوحة مع الفلسطينيين وربما مع دول الجوار لاحقًا. السيناريو الثاني، عن طريق التسوية الجزئية، وذلك تحت ضغط الاعترافات الدولية بفلسطين وتنامي المعارضة الداخلية، قد تضطر إسرائيل إلى الدخول في تسوية سياسية تكرّس حدودًا وظيفية، أكثر منها نهائية، كالحفاظ على السيطرة الأمنية مع منح الفلسطينيين حكمًا ذاتيًا أوسع. هذا السيناريو لن يُنهي الصراع، لكنه قد يُخفف حدته. السيناريو الثالث، الذهاب للحل الشامل، وهو الأقل احتمالًا في المدى القريب، ويقوم على فرض حل الدولتين بحدود 1967 تحت ضغط دولي واسع، وهو الوحيد القادر على ضمان استقرار طويل الأمد، لكنه يتطلب إرادة سياسية غائبة حتى الآن في إسرائيل.
ومن هذا المنطلق، فان حزب عزم يرى انه أصبح من الضروري، ان ينتقل المجتمع الدولي، من سياسة البيانات والانتقادات إلى ممارسة ضغوط عملية، عبر ربط الدعم الاقتصادي والعسكري لإسرائيل باحترامها للحدود والشرعية الدولية. وان على العالم العربي، إعادة تعريف الصراع مع إسرائيل ليس بوصفه شأنًا فلسطينيًا فقط، بل قضية إقليمية تتعلق بأمن واستقرار المنطقة كلها، والوقوف الى جانب الأردن (يقف الأردن في قلب هذه المعادلة، بدولته وأحزابه وقواه الوطنية، بوصفه الطرف الأكثر تعرضًا لتبعات السياسات الإسرائيلية) المتمسك بحل الدولتين والاعتراف الدولي بفلسطين كخط دفاع استراتيجي عن أمنه الوطني، وعن امن واستقرار الدول العربية. كما يرى حزب عزم، بان على القوى الفلسطينية، العمل على بناء وحدة سياسية واستراتيجية تعزز الموقف التفاوضي الفلسطيني، وتُفشل محاولات إسرائيل لتصوير الحدود كقضية ثانوية أمام الأمن الإسرائيلي.

ان تمسك إسرائيل بالعقيدة اليهودية وبهذه العقلية يجعلها عالقة في صراع لا ينتهي، وصانعةً لأزمات لا تنطفئ، ومصدرًا دائمًا لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط.


مشاركة عبر: