نهاد زمخشري: صوت من ذهب في ذاكرة الإذاعة الأردنية

أخبار هنا العالم
حين يُذكر تاريخ الإذاعة الأردنية، تبرز أسماء طبعت أثرًا لا يُمحى في الوجدان السمعي للمستمع الأردني والعربي. ومن بين هذه الأسماء، يسطع اسم الإعلامية اللامعة نهاد زمخشري، التي حمل صوتها دفءَ عمّان وهيبة الكلمة، في مسيرة مهنية امتدت لعقود، جمعت بين المهنية الصارمة، والحضور الإنساني الهادئ، والقدرة على ملامسة هموم الناس وأفكارهم.
وُلدت نهاد زمخشري في عمّان، ونشأت في بيئة تؤمن بالتعليم والتميز. درست في الجامعة الأردنية وتخرّجت منها عام 1973، حاملة شهادة البكالوريوس في علم النفس. هذا التخصص لم يكن مجرد دراسة أكاديمية، بل أصبح مفتاحها لفهم الإنسان والتواصل معه بعمق، وهو ما انعكس لاحقًا في برامجها الحوارية والاجتماعية والثقافية، حيث امتلكت قدرة فريدة على قراءة ما بين السطور، والاقتراب من عقل المستمع وقلبه في آن واحد.
في العام نفسه الذي تخرجت فيه، التحقت زمخشري بـ الإذاعة الأردنية، لتبدأ مسيرة مهنية حافلة امتدت حتى عام 2001. ومنذ اللحظة الأولى، لفتت الأنظار إلى صوت إذاعي واثق، وثقافة واسعة، وقدرة على التحرير والتقديم، ودقة في التفاصيل، ما جعلها تحظى بمكانة مهنية مرموقة واحترام داخل وخارج الأستوديو.
بدأت كمذيعة أخبار رئيسية، ثم تولّت مهام تحرير النشرات والإشراف على إعدادها، كما كانت عضوًا في لجنة البرامج في مراحل مختلفة. وإلى جانب ذلك، أسندت إليها مهمة الإشراف على انطلاقة إذاعة عمان إف إم، وهو ما يعكس الثقة التي أولتها المؤسسة لها في محطات مفصلية من تاريخها.
أبدعت نهاد زمخشري في تقديم العديد من البرامج التي تنوعت بين السياسي والاجتماعي والثقافي والأدبي. ومن أبرز ما قدمته:
اختيارات عفوية (1992): برنامج أتاح لها إبراز ذائقتها الأدبية وقدرتها على انتقاء النصوص التي لامست وجدان المستمعين.
شعر ونغم (1995): جمع بين الإلقاء الشعري والكلمة المغنّاة، فكان مساحة وجدانية فنية تركت أثرًا خاصًا لدى المتابعين.
بطاقات لا يحملها البريد (1996): برنامج اجتماعي حواري قدّمته مع الإعلامي الكبير خالد محادين، ناقش قضايا الناس وهمومهم بروح إنسانية شفافة.
في الذاكرة (1996): برنامج ثقافي توثيقي استضاف شخصيات وطنية بارزة من وزراء وسياسيين ومثقفين، ناقش معهم قضايا الساعة وربط الماضي بالحاضر.
أساطير في الذاكرة (1996): برنامج تميز بسرد القصص والرموز التاريخية في قالب توثيقي، أظهر عمقها البحثي وثقافتها الواسعة.
ستوديو الشباب: فتح فضاء حواري أمام الشباب للتعبير عن قضاياهم وطموحاتهم، وأدارته بأسلوب متوازن وراقٍ، جعل منه منبرًا لجيل كامل.
وقد حظيت أيضًا بفرصة استثنائية عندما شاركت في لقاء إذاعي مع جلالة الملك الحسين بن طلال، حيث حمل صوتها أسئلة الناس وهمومهم في حضرة قائدهم، في لحظة بقيت محفورة في مسيرتها المهنية.
لم تتوقف زمخشري عند حدود تجربتها في الإذاعة، بل سعت إلى تطوير أدواتها باستمرار. فقد شاركت في دورة تدريبية في إذاعة BBC العربية بلندن عام 1976، حيث تدربت على مهارات تحرير الأخبار وإنتاج البرامج واللقاءات الصحفية. كما شاركت في ورش إعلامية في سوريا والأردن، منها دورات في الإدارة العليا في الإعلام عام 1998، بالإضافة إلى مجالات الصحافة والإذاعة الحديثة، مما عزز مكانتها كمهنية متجددة ومواكبة للتطورات.
كانت زمخشري صوتًا حاضرًا في جميع المناسبات الوطنية، سواء من خلال تقديم البرامج الخاصة بعيد الاستقلال، أو عبر تغطية المؤتمرات الرسمية. عُرفت باختيارها الدقيق للكلمات، وبنقلها رسائل الدولة للمواطن والمواطنين للمسؤولين، بحياد وموضوعية.
تمتعت نهاد زمخشري باحترام واسع داخل الإذاعة الأردنية وخارجها، حيث عُرفت بانضباطها وثقافتها ودقتها في العمل، إلى جانب صوتها الرخيم الذي أضفى على برامجها بُعدًا إنسانيًا عميقًا. كانت من أوائل النساء اللواتي تجاوزن قالب "المذيعة التقليدية"، لتصبح معدّة ومحرّرة وصاحبة رأي، وهو أمر لم يكن مألوفًا بسهولة في تلك المرحلة.
في 19 آب 2019، غيّب الموت الإعلامية نهاد زمخشري بعد مسيرة قاربت ثلاثة عقود في خدمة الإعلام الأردني. وقد نعَتها مؤسسات إعلامية وثقافية عديدة، منها وكالة الأنباء الأردنية (بترا)، فيما بثّ التلفزيون الأردني خبر وفاتها بتقدير كبير. وأجمع زملاؤها على أن رحيلها شكّل خسارة لقامة إعلامية متميزة لم تنل التكريم الذي تستحقه في حياتها.
رحلت نهاد زمخشري عن الدنيا، لكنها تركت إرثًا إذاعيًا خالدًا. كان صوتها مزيجًا من الصدق والدفء والهيبة، وصارت برامجها جزءًا من ذاكرة أجيال من المستمعين. ستظل مثالًا للإعلامية المثقفة، الجادة، والمخلصة في أداء رسالتها، واسمها سيبقى محفورًا في سجل المبدعين الذين أعطوا الإذاعة الأردنية أحد أجمل وجوهها.
عماد الشبار
مشاركة عبر:
-
عندما تتحول الطبيعة إلى مصدر دخل… فهل ننتظر أم نبدأ
17/10/2025 00:37
-
إعلام قرار .. أمانة عمّان
17/10/2025 00:37
-
العصف الذهني المجتمعي
17/10/2025 00:37
-
برقية إلى الملك المؤسس .. ارتباط مجيد
17/10/2025 00:37
-
استشهاد القائد يحيى السنوار... الصمت الذي دوّى في قلب الاحتلال
16/10/2025 16:06
-
الشرق الأوسط بين ضباب التسويات ومكر الخرائط
16/10/2025 00:31
-
السياحة العلاجية الأردنية .. من يعيد البوصلة
16/10/2025 00:31
-
النخب السياسية المعلَّبة .. أقنعة الحداثة في مرايا العالم الثالث
16/10/2025 00:31
-
مصافحة باردة تشعل التحليل السياسي: كيف ردّ الملك عبد الله على حماس ترامب في قمة السلام
16/10/2025 00:30
-
الأردن .. الحكمة التي تنحاز للحق دائماً
15/10/2025 01:41