الرجاء الانتظار...

Main Logo
اخبار هنا العالم

مرايا متقابلة


السبت   00:20   20/09/2025
Article Image

أخبار هنا العالم - د. كمال عبدالملك*
منذ أن خضتُ تجربة تدريس الأدب العربي والإنجليزي والمقارن، أدركت أنّ النصوص، مهما تباعدت لغاتها وأوطانها، تنبض بروح واحدة، فالمعلّقة التي دوّنها شاعر في الصحراء، والمسرحية التي صاغها شكسبير على خشبة مسرح «جلوب»، والرواية التي كتبها بروست في صالونات باريس، تبدو جميعها فصولاً من كتاب إنساني واحد. هنا كما هناك، يتردّد السؤال ذاته: ما معنى الوجود؟ ما جدوى الحرية؟ كيف نحتمل آلام الحياة ونواجه معضلات الوجود؟

منذ أن أنشد هوميروس الإلياذة والأوديسة على شواطئ بلاد الإغريق، وإلى أن خطّ نجيب محفوظ الثلاثية في أزقّة القاهرة، ظلّ الأدب يعيد صياغة الأسئلة الكبرى: البطولة، المصير، الحب، السلطة، والإنسان في ضعفه وقوّته. فإذا كان الغرب دشّن ملحمته الأولى على أنقاض طروادة، فإن العرب صاغوا مُعلقاتهم على أطلال من رحلوا، معلقات نقرأ فيها شعراً باهراً عن البطولة والعشق والفناء.

حين رسم أبوالعلاء المعرّي في رسالة الغفران رحلةً أخروية تتنقّل بين الجنة والنار، صاغها بلغة فلسفية تتأرجح بين السخرية والجدّ، كان يضع بذلك ملامح مبكّرة لما سيُشكّل لاحقاً إحدى أعظم الرحلات التخيلية في الغرب: الكوميديا الإلهية لدانتي. كلا النصّين يعكس توق الإنسان إلى استكشاف مصيره بعد الموت، لكن المعرّي جعل من نصّه فضاءً للتشكيك والتأمل العقلي، فيما صاغ دانتي نصّه بنَفَس لاهوتي متماسك، يجعل الرحلة الأخروية مسرحاً لعدالة إلهية صارمة. وإذا كان أوفيد سبقهم جميعاً في التحوّلات، مشبعاً الخيال الأوروبي بحكايات التغيّر والأسطورة، فإن الأدب العربي وجد أصداء لذلك في ألف ليلة وليلة ومقامات الحريري، حيث يتعانق السرد بالدهاء، وتتحوّل كل حكاية إلى مرآة للخديعة والاحتيال.

وشكسبير، الذي جعل المسرح مرآة للعالم، نجد أصداء إبداعه في مسرحيات أحمد شوقي وتوفيق الحكيم، حيث صارت الخشبة منبراً يجمع بين السياسة والحب ومكائد البشر.

وفي العصر الحديث، إذ صوّر تولستوي في الحرب والسلام صراع الفرد مع التاريخ، فإن محفوظ في الثلاثية صوّر صراع المجتمع المصري، للتحرر من الاستعمار والبحث عن هوية حديثة.

وفي نهاية المطاف، يبدو الأدب الغربي ونظيره العربي كقافلتين عظيمتين: إحداهما انطلقت من جبال الإغريق والرومان، والأخرى من صحارى العرب وواحاتهم. تختلف طرقهما، ويتنوّع زادُهما ومسار سفرهما، لكنهما يلتقيان في سوق واحدة هي سوق الإنسانية الكبرى. وفي تلك السوق، لا تُمحى الفوارق، بل تتحاور، ولا تُلغى الخصوصيات بل تتكامل.

* باحث زائر في جامعة هارفارد


مشاركة عبر: