الرجاء الانتظار...

Main Logo
اخبار هنا العالم

الركيبات تكتب: تسخير الذكاء الاصطناعي للأمن المائي والغذائي في الأردن


السبت   00:17   20/09/2025
Article Image

أخبار هنا العالم - يمثل القطاع الزراعي في الأردن ركناً أساسياً من الاقتصاد الوطني ورافعة لتنمية الأرياف وتعزيز الأمن الغذائي.

ومع تصاعد الضغوط المركّبة التي تهدد استدامته، لم يعد تبني الذكاء الاصطناعي خياراً انتقائياً، بل أصبح ضرورة لضمان قدرة القطاع على الصمود والازدهار في مواجهة تحديات الحاضر.
وعلى الرغم من أن المساهمة المباشرة للزراعة في الناتج المحلي الإجمالي قد تبدو متواضعة وفقًا لأحدث البيانات، حيث بلغ الناتج من الزراعة في الربع الأخير من عام 2024 حوالي ‏‏578.90 مليون دينار أردني ‏‎‎، إلا أن أهميتها الاستراتيجية تتجاوز هذه الأرقام الكمية. فقد شهد القطاع أعلى معدل نمو بين ‏جميع القطاعات الاقتصادية بنسبة 7.4% خلال الربع الأول من عام 2023.‏‎‎‏ كما أن القطاع يرفد ما يقارب 15.4% من ‏إجمالي الصادرات‎، وارتفعت الصادرات الزراعية للعام 2024 بنسبة 38% مقارنة بعام 2023، لتبلغ 1.529 مليار دينار ‏أردني، مما يدعم الميزان التجاري ويدل على دوره كقاطرة للنمو. ويحقق القطاع اكتفاء ذاتياً في سلع رئيسة مثل زيت الزيتون، ‏في حين يظل معتمداً على الاستيراد لتغطية احتياجات سلع استراتيجية كالقمح، مما يكشف مواطن ضعف في منظومة الأمن ‏الغذائي الوطني‏.
ويواجه القطاع ما يمكن وصفه بـ "عاصفة كاملة" من التحديات المتداخلة التي يغذي بعضها بعضاً. إذ يُصنف الأردن بين أفقر الدول مائياً عالمياً، إذ تبلغ حصة الفرد من موارد المياه المتجددة السنوية 61 متراً مكعباً، وهو مستوى أدنى بكثير من خط الفقر المائي المطلق ‏عالمياً البالغ 500 متر مكعب للفرد سنوياً. ويعتمد الإنتاج الزراعي على هطول مطري متقلب وغير منتظم، مع استمرار استنزاف المياه الجوفية وارتفاع متسارع في كلفة المياه، مما يُبقي مساحات قابلة للزراعة خارج حيز الاستغلال. وقد أدى الإفراط في ضخ المياه الجوفية إلى تدمير طبقات المياه للأجيال القادمة، مع تفاقم الأزمة بسبب وجود آلاف الآبار المخالفة التي تستنزف الموارد المائية. ويزيد تغير المناخ من حدة الوضع من خلال تراجع كميات الهطول وتذبذبها وارتفاع درجات الحرارة. وتدفع هذه الظروف باتجاه اتساع رقعة التصحر وتهديد مساحات من الأراضي، كما تضر بالتنوع الحيوي وتقلص الإنتاجية الزراعية. وتتعمق المعضلة عبر اقتصاديات إنتاج غير مستدامة؛ إذ يواجه المزارعون ارتفاعاً حاداً في تكاليف الطاقة والنقل ومدخلات الإنتاج الأساسية، ما يفقد القطاع جاذبيته ويزيد من هجر الأراضي في مناطق حيوية كالأغوار الأردنية.
إن تلاقي الاعتماد على استيراد السلع الأساسية مع هشاشة سلاسل الإمداد العالمية وتزايد التهديدات الداخلية للإنتاج يرفع من شأن القطاع الزراعي إلى مرتبة قضية أمن قومي. وبناءً على ذلك، يتعزز مبرر الاستثمار الحكومي الكبير في التقنيات المتقدمة، وفي طليعتها الذكاء الاصطناعي، ويحتل الباحث الزراعي موقعاً محورياً ضمن مقاربة الأمن القومي. استجابت الحكومة لهذه التحديات بإطلاق مبادرات وسياسات طموحة، أبرزها الخطة الوطنية للزراعة المستدامة والاستراتيجية الوطنية للأمن الغذائي، وتدعو هذه الأطر بوضوح إلى رفع كفاءة استخدام المياه وتبني التكنولوجيا الزراعية الحديثة، بما يعكس اعترافاً سياسياً صريحاً بضرورة التحول التكنولوجي. وتظهر أحدث البيانات أن الحكومة تولي اهتماماً متزايداً بالبيانات والشفافية في قطاع المياه، حيث أطلقت تقريرها السنوي لعام 2024 لتقديم معلومات قيمة لصناع القرار والباحثين.
ولتقدير مدى جاهزية الأردن لقيادة تحول زراعي مرتكز على الذكاء الاصطناعي، يلزم تفحص البنية المؤسسية الدافعة للابتكار، مع تركيز التقدير على المركز الوطني للبحوث الزراعية بوصفه الجهة البحثية الحكومية الأهم في القطاع، وعلى مساهمة الجامعات وقنوات التمويل. يُعد المركز الوطني للبحوث الزراعية المحرك العام للبحث والتطوير في القطاع، وتتمثل رسالته في توظيف البحث العلمي لرفع الإنتاجية والكفاءة الزراعية وصون الموارد الطبيعية. ويدير المركز مختبرات متخصصة وبنك البذور الوطني بوصفه رصيداً استراتيجياً، بالتعاون مع الجامعات التي تعمل كمنصات للابتكار وتخريج المواهب. وتوفر الشراكات بين الجامعات والمركز نماذج عملية للتكامل، ومن الأمثلة مشروع مشترك بين الجامعة الهاشمية والمركز الوطني للبحوث الزراعية لتطوير "نظام ري وفحص الي ذكي". كما أن صندوق دعم البحث العلمي والابتكار، التابع لوزارة التعليم العالي، يضطلع بدور رئيس في تمويل البحث والتطوير، وتظهر بياناته دعماً متواصلاً للزراعة، حيث حصل المركز الوطني مؤخراً على تمويل لسبعة مشاريع ريادية من الصندوق، مما يدل على تدفق تمويلي وطني منتظم نحو البحث الزراعي، وإن كان محدود الحجم.
يبيّن التحليل أن المنظومة البحثية الزراعية في الأردن تمر بمرحلة انتقالية أكثر منها تحولاً بنيوياً شاملاً. فهناك جيوب ابتكار لافتة، لكنها تظل مبادرات متفرقة لا تتغذى من استراتيجية وطنية متكاملة للذكاء الاصطناعي في الزراعة، مما يعني أن التكنولوجيا تُضاف على الهيكل القائم بدلاً من أن تنطلق من تحول استراتيجي عميق. ويبرز في المقابل تحدٍّ محوري يتعلق برأس المال البشري؛ فعلى الرغم من أن الجامعات بدأت بتخريج كفاءات في الذكاء الاصطناعي، إلا أن فجوة تبدو محتملة بين هذه المهارات المتمركزة في كليات تكنولوجيا المعلومات والهندسة، وبين الخبرات الزراعية المتوافرة في كليات الزراعة والمركز الوطني. ويتوقف نجاح توظيف الذكاء الاصطناعي مستقبلاً على إعداد كوادر متعددة التخصصات تجمع بين علوم الزراعة وعلوم البيانات، ويقدم مشروع الجامعة الهاشمية نموذجاً عملياً للمسار المنشود.
وانطلاقاً من هذه الحاجة إلى رأس مال بشري عابر للتخصصات، تتجه الأولويات التطبيقية نحو مجالات ذات أثر مباشر على الأمن المائي، وفي مقدمتها الري الذكي وإدارة المياه. إذ تتيح أنظمة الذكاء الاصطناعي تحسين استخدام المياه جذرياً عبر تحليل لحظي لبيانات مجسات التربة ومحطات الطقس وصور الأقمار الصناعية والطائرات بدون طيار لتقدير الاحتياجات المائية الدقيقة، ما يمكن من تطبيق الري متغير المعدل ويخفض استهلاك المياه بنحو 30-35%. ويتكامل نجاح حلول الري الذكي مع قدرات الرصد واسعة النطاق القائمة على الاستشعار عن بعد، حيث تحلل خوارزميات الذكاء الاصطناعي صور الأقمار الصناعية والطائرات بدون طيار لقياس مؤشرات الصحة النباتية، وتشخيص الإجهاد المائي ونقص المغذيات، وتحليل خصائص التربة. وبموازاة ذلك، يستكمل المشهد بأدوات رؤية حاسوبية دقيقة على مستوى النبات والحقل، حيث توظف نماذج الذكاء الاصطناعي صور الطائرات بدون طيار أو الهواتف الذكية للتعرف المبكر على الآفات والأمراض، ما يتيح تطبيق مبيدات انتقائياً ومحدداً للهدف ويقلل الاستخدام الكيميائي والتكاليف. وإلى جانب إدارة المدخلات والحقل لحظياً، يمتد أثر الذكاء الاصطناعي إلى ما قبل الحقل ذاته عبر تسريع الابتكار الوراثي، حيث يستطيع التعلم الآلي تحليل قواعد بيانات جينومية واسعة لتحديد الجينات المرتبطة بصفات مرغوبة مثل تحمل الجفاف والحرارة. وفي السياق الأردني، يمثل ذلك مساراً استراتيجياً بعيد المدى للتكيف مع تغير المناخ عبر ابتكار أصناف موائمة خصيصاً لظروف البلاد.
في المحصلة، تتلاقى هذه التطبيقات لتحدث انتقالاً جوهرياً في نهج الإدارة الزراعية من الاستجابة لمؤشرات متأخرة للمشكلة إلى إدارة استباقية وتنبؤية للنظام الزراعي. ولأن هذه النقلة التنبؤية لا تعمل في الفراغ، فإن نجاحها مشروط بتوافر بيانات محلية وافرة وعالية الجودة. وعند ترجمة هذا الشرط إلى المشهد الأردني الراهن، تبرز ندرة البيانات المفتوحة عالية الدقة على مستوى المزرعة كالتحدي الحاسم لتدريب النماذج والتحقق من أدائها، مما يكشف عن عنق زجاجة استراتيجي قد يبقي العائد من الاستثمار في الكفاءات والبنية التحتية دون المأمول. ومع ذلك، فإن هذا التحدي يمكن تحويله إلى ميزة تنافسية، فالأردن بحكم بيئته الصعبة وندرة موارده، مجبر على تطوير نماذج ذكاء اصطناعي يمكنها العمل بفعالية حتى مع بيانات محدودة. هذا الابتكار يولد حلولًا تقنية متخصصة يمكن تسويقها لدول أخرى في المنطقة تواجه تحديات مماثلة، مما يحول الأردن من مجرد متلقٍ للتكنولوجيا إلى رائد إقليمي في تكنولوجيا الزراعة للبيئات الجافة.
ولتحقيق ذلك، تبرز أولويات استراتيجية تشمل إعادة تعريف دور المركز الوطني للبحوث الزراعية من منفذ للأبحاث إلى ميسر ومنسق لمنظومة وطنية للتكنولوجيا الزراعية. كما يجب توجيه نسبة أعلى من تمويل صندوق دعم البحث العلمي والابتكار نحو مشاريع متعددة التخصصات. وعلى القطاع الخاص بناء قنوات تواصل مبادرة مع المركز الوطني والجامعات وتصميم حلول تقنية منخفضة الكلفة تعالج المشكلات الأكثر إلحاحاً لدى المزارعين.
إن الرؤية حتى عام 2035 تتجه نحو قطاع زراعي متحول تدار فيه المزارع بنماذج تنبؤية قائمة على البيانات، وتصبح أصناف محاصيل متحملة للمناخ مطورة بالذكاء الاصطناعي هي القاعدة. وهذا التحول يتجاوز مجرد الصمود ليصل إلى مرحلة بناء قطاع رائد، يعزز الأمن القومي، ويحقق اعترافاً إقليمياً بالأردن كقائد في تكنولوجيا الزراعة للبيئات الجافة. ويتطلب بلوغ ذلك جهداً منسقاً بين جميع الفاعلين لتحويل الندرة إلى محرك رئيس للابتكار والازدهار.



الدكتورة رشا الركيبات
باحثة علوم وسياسات نظام الأرض


مشاركة عبر: