الرجاء الانتظار...

Main Logo
اخبار هنا العالم

الإبادة البيئية: الجريمة المنسية التي تسعى العدالة الدولية للاعتراف بها


الخميس   01:39   11/09/2025
Article Image

أخبار هنا العالم - من تمليح الرومان لحقول قرطاج، مروراً بإحراق العراق لآبار النفط الكويتية، وصولاً إلى تجريف إسرائيل لبساتين الزيتون الفلسطينية، ظل تدمير البيئة تكتيكاً عسكرياً يُستخدم عبر التاريخ لإلحاق الأذى بالخصم. وبينما كثيراً ما يُحاسب القادة على الجرائم ضد البشر، بقيت البيئة لعقود ضحية صامتة لا تجد من يدافع عنها أو يُطالب بالعدالة لأجلها.

لكن في السنوات الأخيرة، بدأت تتبلور حملة دولية نشطة تسعى إلى الاعتراف بـ"الإبادة البيئية" كجريمة قائمة بذاتها ضمن القانون الدولي، على غرار جرائم الحرب والإبادة الجماعية، وذلك في محاولة لرد الاعتبار للطبيعة ومعاقبة من يتسبب عمداً في تدميرها الواسع.

ما هي الإبادة البيئية؟

ظهر مفهوم "الإبادة البيئية" لأول مرة في سبعينيات القرن الماضي على يد عالم الأحياء آرثر جالستون، الذي استخدمه لوصف إزالة الغابات الواسعة بسبب استخدام الجيش الأميركي لغاز "العامل البرتقالي" خلال حرب فيتنام. ورغم طرح المفهوم في عدة مؤتمرات بيئية لاحقة، إلا أنه تراجع تدريجياً حتى أعادت إحياؤه المحامية البريطانية الراحلة بولي هيغينز في أوائل القرن الحادي والعشرين.

هيغينز عرّفت "الإبادة البيئية" بأنها: "الضرر الواسع النطاق أو التدمير أو فقدان النظم البيئية في منطقة معينة، سواء بفعل بشري أو لأسباب أخرى، إلى الحد الذي يجعل من التمتع السلمي بتلك المنطقة أمراً مستحيلاً أو متضائلاً بدرجة كبيرة."

جريمة خامسة ضد السلام؟

ينص نظام روما الأساسي، المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية، على أربع جرائم دولية رئيسية: الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، وجريمة العدوان. ويسعى نشطاء البيئة والقانون الدولي حالياً لإدراج "الإبادة البيئية" كجريمة خامسة ضد السلام.

ورغم أن المادة 8(2)(ب)(رابعاً) من نظام روما تتضمن بنداً يشير إلى "شن هجوم مع علم بأنه سيلحق ضرراً واسع النطاق وطويل الأمد وجسيماً بالبيئة الطبيعية"، فإن هذا النص يُعد غامضاً ويضع معايير صارمة يصعب استيفاؤها، الأمر الذي أدى إلى عدم توجيه أي تهم حتى الآن استناداً إليه.

لماذا تُطالب الحملة بجعلها جريمة مستقلة؟

الاقتراح الحالي يهدف إلى تخفيض العتبة القانونية، بحيث تُجرّم الأفعال التي يرتكبها أفراد أو مؤسسات مع العلم بوجود احتمال كبير لإلحاق أضرار جسيمة وطويلة الأمد بالبيئة، سواء في أوقات الحرب أو السلم. وهذا سيسمح بمحاسبة الشركات والدول على أفعالها التخريبية حتى خارج سياق النزاع المسلح.

وترى جوجو ميهتا، المديرة التنفيذية لمنظمة "أوقفوا الإبادة البيئية"، أن الاعتراف بهذه الجريمة من شأنه أن "يوفر أداة قانونية واضحة للتقاضي، خصوصاً في زمن الحرب، حين يصبح الدفاع عن البيئة أكثر صعوبة."

التحركات القانونية والإجراءات المحتملة

تُنظر القضايا المتعلقة بالإبادة البيئية من خلال المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، وفقاً لنظام روما. ويُمكن أن تُرفع القضايا بطلب من مجلس الأمن أو عبر الدول والأفراد إلى مكتب الادعاء العام.

ومع ذلك، فإن المحكمة الجنائية الدولية تُعد الملاذ الأخير، ولا يمكن اللجوء إليها إلا بعد استنفاد السبل القضائية المحلية. هذا ما يحدث حالياً في أوكرانيا، حيث يُحقق المدعون المحليون في الأضرار البيئية الجسيمة الناجمة عن الغزو الروسي، تمهيداً لتحريك قضايا دولية.

عوائق قانونية وسياسية

رغم الزخم المتزايد، لا تزال هناك تحديات سياسية وقانونية كبيرة تعرقل إدراج "الإبادة البيئية" كجريمة مستقلة. فبحسب ميهتا، فإن العائق الرئيسي يتمثل في "غياب الوعي العام" حول أهمية حماية البيئة كحق جماعي وإنساني.

ومع أن بعض الدول الكبرى تتجنب معارضة الفكرة علناً لتفادي الانتقادات، إلا أنها تسعى في الخفاء إلى إفراغ المقترح من مضمونه عبر صيغ قانونية مخففة أو التذرّع بوجود قوانين وطنية بديلة.

من يدعم ومن يعارض؟

تحظى الفكرة بدعم واسع من الدول المتأثرة مباشرة بتبعات الكوارث البيئية، وفي مقدمتها أوكرانيا التي دفعت باتجاه إحياء المقترح بعد الحرب، إضافة إلى دول جزرية مثل فانواتو، فيجي، وساموا التي تُعاني من آثار التغير المناخي، ودول إفريقية مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية التي تُدافع بشدة عن تنوعها البيولوجي.

في المقابل، تمتنع بعض الدول الصناعية عن تقديم دعم واضح، خوفاً من المساءلة القانونية مستقبلاً، أو لأن شركاتها الكبرى ستكون عرضة للملاحقة بسبب دورها في تلويث البيئة أو استغلال الموارد الطبيعية بشكل جائر.

المستقبل القانوني للمقترح

يشير خبراء القانون الدولي إلى أن إدراج "الإبادة البيئية" في نظام روما الأساسي لا يزال ممكناً، لكنه يتطلب توافقاً دولياً واسعاً وتعديلاً رسمياً للمعاهدة. وقد قطعت بعض الدول خطوات عملية، إذ يناقش ما لا يقل عن تسعة مشاريع قوانين حول الإبادة البيئية على المستوى الوطني في دول مثل بلجيكا وفرنسا.

كما أقر الاتحاد الأوروبي مؤخراً توجيهاً بيئياً جديداً، يوفر حماية موسعة للبيئة، وإن لم يذكر "الإبادة البيئية" صراحة إلا في ديباجته.


مشاركة عبر: